في يثرب الطيبة، صاح الصائح: بُـعِثَ نبيّ آخر الزمان في مكة، وترامى النبأ، ونما إلى سمع أبي عامر الراهب(1)، فَـَراعَهُ ورَوَّعَهُ.
راعه النبأ لأنه كم ذكر البعث بعد الموت، وكم تحدث عن دين الحنيفيَّة، وشريعة إبراهيم عليه السلام، وأن نبيًا سَيُـبْـعث بهذه الشريعة، وبعد مرور قسم من الزمن يعلم الله أمده بُعِثَ النبيّ محمد صلى الله عليه وسلم، وفي عبارة، ما أقل كلماتها وما أوفى تصويرها لمنهج الإسلام، قال: «إنِّي أرْسِلْتُ بحنيفيَّـةٍ سَمحةٍ»(2)!
والحنيفيَّة تعني الشريعة المستقيمة، والمنهج المعتدل الذي لا يشوبه أي ميل، والسمحة؛ أي السهلة التي لا تتضمن ضيقًا ولا شدَّة(3).
وروعه النبأ، لأنه سمع في نفسه صوت باطل عجز أن يُسْكِتَهُ، وتَكَشَّف عن إنسان نضبت منابع الخير في نفسه، وتحكم حسده في وجهه أمره، فحسد النبي صلى الله عليه وسلم حسداً لا يناظره إلا حسد يهود.
وألَّفَ الحسد بينه وبين عبدالله بن أُبَيّ بن سلول، فكلاهما حسد النبي صلى الله عليه وسلم على ما منَّ الله به عليه، وتوطَّدت آصرة(4) الأُلْفَة بينهما، وما لبثت أن تبدَّلت إلى وشيجة(5) قرابة لمَّا خطب أبو عامر الراهب جميلة بنت عبدالله بن أُبيّ إلى ابنه حنظلة.
وقَدِمَ النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مهاجرًا، وتشاور المنافق والفاسق وأسرفا في التشاور؛ فأمَّا المنافق فهو عبدالله بن أُبي كما عرفه التاريخ وعرفناه منه، وأمَّا الفاسق فهو أبو عامر الراهب كما دعاه النبي صلى الله عليه وسلم يوم «أُحد»، ولم يتبعاه صلى الله عليه وسلم، وإنَّـما أصرا على عدائه بغياً وحسداً، فرغم تصريح ظواهرهما بالاحتفاء به كان لبواطنهما شأن آخر، ولمَّا فاض بغيهما على جوارحهما من نفسيهما المترعة به، أستأذن حنظلةُ بن أبي عامر، وعبدُالله بن عبدالله بن أُبَيّ، رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في قتل أبويهما، فنهاهما صلى الله عليه وسلم عن ذلك(6).
وأحسَّ أبو عامر، وابن أُبيّ، أنَّ الأمور تجرى على غير هواهما؛ فقرَّ كل منهما على قرار يناسب خبث نفسه، فأمَّـا عبدالله بن أُبيّ فأضمر النفاق، وأبدى الموادعة للنبي صلى الله عليه وسلم، وأمَّـا أبو عامر فخرج إلى مكة ينشد مكانًا بين أعداء النبي صلى الله عليه وسلم ووجده هناك فاستقر فيه حتى قَدِمَ مع قريش يوم «أُحد» محاربـًا، فسمَّاه النبي صلى الله عليه وسلم «الفاسق»(7)، ثم عاد مع القرشيين إلى مكة، فلما فُـتِحَت هرب إلى هرقل ناشدًا نفس المكان ببلاد الروم؛ فمات كافراً هناك سنة 9هـ(8).
هذا ما عرفه التاريخ عن أبي عامر الراهب، فماذا عرف عن ولده حنظلة؟
آمن حنظلة رضي الله عنه بدعوة الإسلام وهو في بواكير شبابه، رغم عداء أبيه للداعي إليها صلى الله عليه وسلم، وصرف كل همِّه في مؤازرتها، والمضي سراعًا فوق كل سبيل يؤدي إلى نصرها، حتى لو كان قتل أبيه وسيلة مروره فوق هذا السبيل.
ولكي ندرك الصورة الصحيحة التي أدَّت بحنظلة إلى التفكير في قتل أبيه، لا بد من الوعي بأن حنظلة كان من أولئك الرجال الذين شاع صدق الإيمان في نفوسهم، ومازحت حلاوته دماءهم، وما عادت قلوبهم تتذوق حلاوة في غيره، وانتفى منها كل شيء إلَّا ما كان لله تعالى، وغدا أحدهم يمتلك ديناً يهون كل شيء ولا يهون، حتى ولو كان هذا الشيء هو أبا أحدهم إذا ما حارب الله ورسوله.
بهذا المعنى امتلأ خاطر حنظلة، حتى بات على يقين لا يخالجه فيه الشك لحظة بوجوب العمل من أجل هذا المعنى في كل لحظة، ومن أجل هذا المعنى الممتلئ به خاطره، وللمضي سراعاً فوق كل سبيل يؤدي إلى نصرة هذا الدين، انْسَلَّ حنظلة من مخدع الزوجية، ومن بين أحضان زوجته جميلة بنت عبدالله بن أُبيّ بن سلول(9) في ليلة بنائه بها، لما سمع الصائح: يا خيل الله اركبي، حي على الجهاد.
وبسبب المعنى الممتلئ به خاطره، خرج ملبياً النداء، خرج دونما يغتسل لينضوي بين جمع الإيمان وتحت رايته، وهو يجابه فريق الكفر المنضوي تحت راية الشيطان عند جبل «أُحد».
رضي الله عنك يا حنظلة، أي صورة فذة للبطولة تلك التي رسمتها! بيد أنك كنت تبذل جهداً خارقاً ونبيلاً في وضع رغباتك تحت قدميك، وكنت في ذلك صلباً ومتفرداً، ولم تكن راحتك تتصل إلَّا مع هذا البذل الميمون، إنك تفجع نفوسنا الضعيفة بهذه الصورة، ولكن ما أسعد فؤادك بها في الآخرة! وما أخلد ذكراك بها في الدنيا! لقد رسمت صورة رآها التاريخ وحكى عنها مرة واحدة؛ لأن الدنيا لم تعرفها سوى مرة واحدة، لم تعرفها إلَّا بك ومنك، وكأن الله عز وجل اكتفى منك بهذه الصورة ليمنَّ عليك بالفردوس الأعلى، فرزقك الشهادة بجوار جبل «أُحد».
ويروي لنا التاريخ الأمين كيف فلحت في أمرك وفزت بالشهادة، فيقول: ولما كان حنظلة يقاتل يوم «أُحد» التقى هو وأبو سفيان بن حرب، فعقر فرس أبي سفيان ثم استعلى عليه وكاد يقتله، فأتى شداد بن الأسود المعروف بابن شعوب الليثي، فأعان أبا سفيان على حنظلة، فخلَّص أبا سفيان وقتل حنظلة، وقال: حنظلة بحنظلة؛ يعنى بحنظلة الأول حنظلة بن عامر، وبالثاني ابنه حنظلة، قُتِل يوم بدر كافراً(10).
وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، وراح النبي صلى الله عليه وسلم يتفقد شهداء المسلمين محزوناً، توقَّف أمام جثمان حنظلة، جعل يرقبه لحظة، ولعلَّ طيف بسمة خجلى ارتسم على وجهه الشريف المتشح بأحزانه لما رفع بصره عن جثمان حنظلة، قائلًا لأصحابه: «إنَّ صاحبكم تُـغَسِّلهُ الملائكة فاسألوا صاحبته»(11).
وعاد الصحب الكرام إلى المدينة، وكل منهم يتفكر في أمر حنظلة ويستغربه؛ تغسله الملائكة؟! أجل تغسله الملائكة، فما أخبر عن خبره إلَّا الصادق صلى الله عليه وسلم، وترامى الخبر في المدينة، حتى غمر شذاه كل أحيائها الطيبة، وترامت معه في النفوس أمنية واحدة وهي الوقوف على سر حنظلة؛ لماذا غسلته الملائكة دون شهداء المسلمين السبعين في «أُحد»؟!
فسألوا زوجته: ما شأن حنظلة، إن الملائكة غسلته شهيداً؟! فأجابت السيدة واضعة أيدي الجميع على سر حنظلة: لقد خرج وهو جُـنُـب حين سمع الهائعة(12)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لذلك غسلته الملائكة، وكفى بهذا شرفاً ومنزلة عند الله تعالى»(13).
لتزداد دلائل النبوة دليلاً باهراً، فما أن أبصر صلى الله عليه وسلم جثمان حنظلة بين الشهداء حتى خرق الله له النواميس الكونية، والقوانين الطبيعية، وأعلمه بنبأ حنظلة الذي أعلمه لأصحابه بقوله الشريف: «إنَّ صاحبكم تُغَسِّلهُ الملائكة فاسألوا صاحبته».
وظل النبأ مدهشاً محيراً، حتى فكَّت السيدة جميلة لغزه بشكل مقنع تماماً، وربما كان في قوله صلى الله عليه وسلم: «فاسألوا صاحبته» إشارة خفية ولطيفة إلى أنها وحدها من تستطيع فكَّ لغزه؛ أعني أن الله عز وجل الذي أعلمه بأن الملائكة تُغسله أعلمه أيضاً لماذا تُغسله، ولكنه صلى الله عليه وسلم آثر أن يسمع الصحب الكرام من زوجته لتقيم الدليل على صحة قوله: «إن صاحبكم لتغسله الملائكة»، وإلّا لماذا أضاف صلى الله عليه وسلم: «فاسألوا صاحبته»؟
ولا ريب أن العروس الشابة جميلة بنت عبدالله بن أُبيّ ودَّعت عريسها الشاب حنظلة بن أبي عامر بعد أن قضى معها ليلة أو بعض ليلة، ثم استسلمت لحلم جميل تهنأ بين أحداثه بعودته إليها، ولكن أمست العروس الحالمة أيّماً(14)، وطفقت تجتر أحزاناً في إثر أحزان، ولم يمض وقت طويل حتى أيقنت أن الراحل الغالي قد استودع جنيناً بين أحشائها، ولكن القدر حسم الأمنية الحلوة بعدم عودة زوجها لتشعره بما في أحشائها، ثم تُسْعِد به عيناه، وراحت تعد الليالي حتى أودعت الحياة الموحشة يتيمها عبدالله بن حنظلة، لتتحول مشاعرها عن الراحل الغالي الذي بات في ماضيها أجمل ذكرى، إلى الوافد الجديد الذي أضحى في مستقبلها خير عوض.
____________________
(1) هو عمرو بن صيفي بن زيد الأوسي، انظر: أسد الغابة (1281).
(2) حديث صحيح، أخرجه أحمد (6/ 233)، وقال أحمد شاكر في عمدة التفسير: إسناده صحيح (1/ 847).
(3) راجع: سماحة وعفو الإسلام للمؤلف.
(4) رابطة كالقرابة، أو المصاهرة، مفرد أواصِرُ وآصِرات.
(5) رابطة ناتجة عن رحم مشتبكة.
(6) مرسل/ انظر: الإصابة (1868).
(7) أسد الغابة (1281).
(8) وقيل: سنة 10هـ، انظر: أسد الغابة (1281).
(9) الإصابة (10996)، أسد الغابة (6821) وأفاد ابن حجر أنها أسلمت وبايعت وما زالت في طور الفتيات.
(10) أسد الغابة (1281).
(11) أخرجه الحاكم (1917) بإسناد قوى، وقال: صحيح على شرط مسلم، والبيهقي (6605)، وقال: إنه مرسل.
(12) الصوت المفزع، والمقصود صيحات الجهاد والإعلان عن اقتراب العدو.
(13) أخرجه الحاكم في مستدركه (3/ 204)، والبيهقي في دلائل النبوة (2/ 246)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 357).
(14) المرأة الأيِّم هي التي فقدت زوجها، جمع أَيـَائِم وأَيـَامى.