جاءت نثارات أهل العلم عن الحارث بن نوفل رضي الله عنه أشبه بما يُعرف بالسيرة الذاتية، ولم يبرز منها سوى مزايا أربع أفعمت مشاعرنا، وملأت أفهامنا بأننا تلقاء رجل جمع كل رائعة من روائع المهابة والجلال، والحسن والعظمة، ولمَ لا وكل مزيَّة منهن ارتبطت بالنبي صلى الله عليه وسلم برباط وثيق؟!
أولها: نسبه.. فهو الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبدالمطلب بن هاشم رضي الله عنه، أبوه ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، أُسر أبوه نوفل بن الحارث يوم «بدر» كافراً، ولمَّا فداه عمه العباس أسلم، فأسلم معه ولده الحارث وما زال في مقتبل شبابه.
وثانيها: استعماله.. قال ابن سعد في «طبقاته» من طريق ابنه عبدالله بن الحارث: صحب الحارث بن نوفل النبي صلى الله عليه وسلم، فاستعمله على بعض عمله بمكة، وأقره أبو بكر، وعمر، وعثمان، ثم انتقل إلى البصرة، واختط(1) بها داراً، ومات بها في آخر خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنهم جميعاً.
وروى البخاري في التاريخ من طريق ابنه عبدالله أيضاً: أن أباه كان على مكة.
إذاً فلن نتجاوز الحد إذا قلنا: ولئن أبقاه الله حياً إلى خلافة عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فلربما انتهج نهج أسلافه واستعمله؛ لذا ينبغي أن يُقرن ذِكْر الحارث بن نوفل بذكر الحكمة، فهل كانت أُسس إجماع النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه رضي الله عنهم على استعماله إلَّا وفرة العلم والحكمة، وأنه خَبَر الدنيا شاباً، ووشت تحركاته فيها بقدرته على تبني الآراء التي تُحرِك الأفهام والأبدان من حوله.
وثالثها: شبهه.. وجاءت المزيَّة الثالثة لتستدر عجَبَنَا(2) وإعجابنا بسيرته، مزية أوردها التاريخ في كلمات ثلاث تتألق في بريق الفخامة، ولألاء الجمال، حيث قال: «وكان يُشْبِه النبي صلى الله عليه وسلم»(3).
ورابعها: زواجه.. وتلوح المزيَّة الثالثة للمزيَّة الرابعة ترفل وتختال في أفق الرفعة، والعظمة فتَجِدُّ في السير خلفها في طبقات ذات الأفق وإن خبا سحر روعتها عنها قليلاً، أوردها التاريخ في قوله: وكان سلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت أم حبيبة بنت أبي سفيان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت هند بنت أبي سفيان عند الحارث بن نوفل، وهي أم ولده عبدالله.
غير أن ابن حجر قال في ترجمتها: هند بنت أبي سفيان أخت معاوية بن أبي سفيان كانت زوج الحارث بن نوفل فولدت له ابنه محمداً.
وقال ابن سعد في «طبقاته»: فولدت له ابنه محمداً، وعبدالله، وربيعة، وعبدالرحمن، ورملة، وأم الزبير.
ويلحُّ التاريخ على عظمة المزيَّة الرابعة فلئن قال فيها: إن الحارث كان سلف النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال أيضاً: إنه تزوَّج من ابنة عم النبي صلى الله عليه وسلم درَّة بنت عبدالعُزَّى بن عبدالمطلب.
قال ابن حجر في «الإصابة» في ترجمة درَّة بنت أبي لهب: وتزوجها الحارث بن نوفل فولدت له عقبة، والوليد، وأبا مسلم.
وعاش الحارث بن نوفل يتقلب بين جنبات مزاياه وأعطافها حتى مات بالبصرة في آخر خلافة عثمان بن عفان، وقيل: في آخر خلافة عمر بن الخطاب، وقيل: مات زمن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم جميعاً.
وما نفهمه أنه سافر إلى ربه طامحاً إلى نعماء وشائج ومزايا تشده إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أُخراه، كما تنعم بمثيلاتها في دُنياه(4).
_______________________
(1) رسم حدودها وأقامها.
(2) العَجَبُ: روعة تأخذ الإنسان عند استعظام الشيء.
(3) أورده ابن حجر في الإصابة (1504).
(4) طبقات ابن سعد (1/ 295)، تاريخ الإسلام (2/ 26)، الجرح والتعديل (5/ 67)، الاستيعاب (421)، الإصابة (1504) (11154)، أسد الغابة (976) (6905).