لا أظن أن هناك أمة من الأمم، لديها في تاريخها القريب أو البعيد، هذا العدد المذهل من القادة العظام، والرجال الأشداء، والمجاهدين الأكفاء، ومن ثم الشهداء، فلا تمرّ السنون على هذه الأمة إلا بفقد خيرة هؤلاء القادة، الذين يمضون على طريق تحرير الأمة، ومكابدة عدوها، ومصاولة الاستعمار والطغاة في كل قطر وبلد وميدان.
وإنني ومنذ اغتيال الشيخ المجاهد صالح العاروري، نائب رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، أتفكر بهذه الأمة العظيمة الولّادة، وعن هذا السيل الهادر من التضحيات التي ما فتئ رجال أمتنا عن تقديمه، في فلسطين، ولبنان، وسورية، والعراق، وليبيا، ومصر، والجزائر، والمغرب، وأفغانستان، وكشمير، وفي كل شبر في هذه المعمورة.
سلسلة لا تنتهي حلقاتها، وأنجم زاهرة في سماء هذه الأمة التي تنهض من سباتها، على الرغم من الكبوات والقيود، ومكر القاصي والداني، ولقد أثار نبأ اغتيال الشيخ رحمه الله صورًا هادرة في فؤادي، ونبش الذاكرة بكل ما فيها من أخبار ومعلومات، فكأني لحظات قراءة الخبر قد رأيت الخطابي وهو على حصانه يقود المغاربة في «أنوال» ويكسر جحافل الجيوش المجتمعة، وسمعت صوت عمر المختار وهو يتلو آيات الذكر الحكيم في شعب «الجبل الأخضر»، وأصغيت السمع إلى صوت عبدالقادر الحسيني وهو يشد أزر جنوده في معركة القسطل، وكنت حاضرًا مع السباعي، وكتائب الأبطال في معارك 1948، وما زلت أبحث مع الجزائريين عن قبر الشيخ العربي التبسي، وآلاف الشهداء من أترابه وأبنائه، وكأنني لحظتها عبرت مع الجنود القناة في 1973، وشهدت مع الشيخ محرم العارفي أول كتائب المجاهدين في جنوب لبنان، والشباب الذين رابطوا في الشقيف (قلعة تقع في لبنان) وحوصروا في بيروت، ورأيت صورة الملا عمر وهو يلتحف بعباءته ولا يعبأ بجحافل الغزاة من كل حدب وصوب، وكنت قرب المجاهد الذي يكبر على أثر تفجير العبوة بالهامر الأمريكي في الفلوجة، وعشت مع عبد القادر صالح، وهتفت بنداء الساروت.. وأشاهد وأسمع ما يسطره ساداتنا في غزة العزة من بطولات وملاحم.
صور متلاحقة، وقادة استثنائيون، رسموا طريق تحرر هذه الأمة، وكانوا سلسلة ذهبية في جيد هذه الشعوب من المحيط إلى المحيط، وحُق لنا أن نفاخر بهم الدنيا، وأمام الأمم الأخرى، ونقول: هؤلاء ساداتنا، وأولو العزم منا، أصحاب القلوب المؤمنة والأفئدة الشفافة على المؤمنين، الصلدة على المشركين والأعداء، الذين خاضوا معارك التحرر، فمنهم من رأى زرعه قد أينع وعاين قطافه شهيًا، يُعجب الزراع ويغيظ به الكفار، وجلهم مضى إلى ربه وقد أدى ما عليه من مهمة وهو راض ليحمل من جاء من بعده الراية، فلا تسقط رايتنا، ولا تخبو جذوتنا.
هذه شذرات من معين تاريخ أمتنا القريب ومن ذاكرتي الكلّة، وفي القلب والسطور أكثر منها وأعظم، وكما قال الشهيد سيد قطب رحمه الله: «والجهاد عبء لا ينهض به إلا من هم له أهل!»، وكان من أهله وخاصته الشيخ المجاهد صالح العاروري، منذ نعومة أظفاره في قرية عارورة، وحتى آخر لحظاته مخططًا ومشرفًا وموجهًا ومسددًا، وهو على نهج من سبقه، فقوافل شهداء فلسطين لا تتوقف، وهذه الحركة تقدم خيرة قادتها وأبنائها، ولسان حالهم:
إنا نقدم قبل الجند قادتنا نحو المنون سباقاً نحو مولانا
لقد ارتقى الشيخ، غير آبه بتحذيرات المحتل، ولا يعبأ بتهديداته، لقد كان هينًا لينًا كريم السجية والطبع، التقيت معه مرة فكان سيلًا متدفقًا من الفكر والعزيمة والفهم، ولكنه يتحدث بتؤدة ورفق، كأنه يسبك كلماته ويزنها بالذهب، وقد أكد حينها عظيم ما نقوم به، وأهمية دورنا في نصرة القدس، هو من هو في جهاده وتضحياته، والأخطار تتربص به من كل حدب وصوب، وقد رأيته بعدها مرات كثيرة، من دون حديث أو كلام، أرى صلاته وعبادته وزهده وسمته، وكم نندم على تلك اللحظات التي ما اقتربنا فيها من الشهداء أكثر، لا أقصد قرب المصالح في الدنيا، بل قرب الوصول في الآخرة.
لقد هيج رحيل الشيخ المجاهد آلاف الصور لمن ارتقى في غزة، في هذه المعركة التي يخوضها القطاع على جوع وحصار وتآمر، ولكن فلسطين كأخواتها في هذه الأمة تأبى إلا أن تقدم خيرة أبنائها في هذا الطريق، فالنصر والتحرر درب معبّد بالشوك والتضحيات، وما يقوله ساداتنا في «القسام» بأنه «جهاد.. نصر أو استشهاد» ليس شعارًا تُذيل به الخُطب والبيانات، بل بابٌ للحرية القانية لا تطرقه إلا الأيدي المضرجة بالدماء، والمتوضئة بالإيمان والإباء.