على قدْر تشديد النكير وتغليظ العقوبة على من يُقدِم على إتلاف روحه وإزهاق نفسه بيده عن طريق الانتحار، كانت الحفاوة البالغة والمنزلة العالية لمن قدَّم نفسه رخيصة راضيًا مختارًا -وأتلفها العدو- أثناء الجهاد في سبيل الله تعالى.
فكلاهما أقدم على فعله وهو متيقن أن نفسه هالكة لا محالة، أو يغلب على ظنه هلاكها وتلفها، لكن الأول لم يكن راضيًا بقضاء الله تعالى، قانطًا من رحمة الله، يائسًا من رَوْح الله، أما الآخر فقد كان ساعيًا طالبًا لرضا الله، متشوقًا لرَوْحٍ وريحان وجنة نعيم.
ولحظة الموت هي تتويج لرحلة الإنسان في الدنيا، ودليل على اعتقاده وغالب عمله وفعله وسعيه في تلك الحياة.
عَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ»(1)، فـ«إن الكريم قد أجرى عادته بكرمه أنه من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بُعث عليه»(2)؛ أي: على الحال التي مات عليها من خير وشر(3).
والحديث السابق يوضحه الحديث الذي دار بين النبي ﷺ وابن عمرو، حينما قال: يا رسول الله، أخبرني عن الجهاد والغزو، فقال: «يا عبد الله بن عمرو، إن قاتلت صابرًا محتسبًا بعثك الله صابرًا محتسبًا، وإن قاتلت مرائيًا مكاثرًا بعثك الله مرائيًا مكاثرًا، يا عبدالله بن عمرو، على أي حال قاتلت أو قُتلت بعثك الله على تلك الحال»(4).
والإعجاب بحال إنسانٍ ما لا يكون صحيحًا تمامًا أثناء حياته؛ فلا يعلم أحد كيف ستتقلب بهذا الإنسان أموره وأحواله؛ فربما تتغير من الخير إلى الشر، أو من الشر إلى الخير، فعن أنس، أن رسول الله ﷺ قال: «لَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَعْجَبُوا بِأَحَدٍ، حَتَّى تَنْظُرُوا بِمَ يُخْتَمُ لَهُ؛ فَإِنَّ الْعَامِلَ يَعْمَلُ زَمَانًا مِنْ عُمْرِهِ، أَوْ بُرْهَةً مِنْ دَهْرِهِ، بِعَمَلٍ صَالِحٍ، لَوْ مَاتَ عَلَيْهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ، ثُمَّ يَتَحَوَّلُ فَيَعْمَلُ عَمَلاً سَيِّئًا، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ الْبُرْهَةَ مِنْ دَهْرِهِ بِعَمَلٍ سَيِّئٍ، لَوْ مَاتَ عَلَيْهِ دَخَلَ النَّارَ، ثُمَّ يَتَحَوَّلُ فَيَعْمَلُ عَمَلاً صَالِحًا، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا اسْتَعْمَلَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيْفَ يَسْتَعْمِلُهُ؟ قَالَ: «يُوَفِّقُهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ، ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَلَيْهِ»(5).
وكم من مغمور مجهول بين الناس يكون موته آية، لشيء كان بينه وبين مولاه، أو اطلاع مولاه على صدق نيته، وإخلاصه في عمله.
فهذا الإمام الحافظ القسامي المجاهد تيسير أبو طعيمة ما كان يعرف أن موته سيكون آية في العالمين، وأن مشهد استشهاده الذي أريد من نشره بث الرعب في قلوب المجاهدين ومناصريهم، أصبح مشهد إثبات الشجاعة والثبات والتوحيد والإقبال في أبهى صورها.
فهذا المجاهد خرج حاملاً سلاحه، مريدًا الإثخان في العدو، ودفع صولته عليهم، وكسر شوكته، لكن طائرة العدو اصطادته وأطلقت النار عليه من السماء، فأصابت جسده الذي خذله فلم يعد يقوى على النهوض والوقوف، لكن عزيمته وإرادته لم تخذله، وبعد عدة محاولات انصاع جسده رغم الوهن والانهيار التام، فرفع إصبع التوحيد معلنًا الشهادة لله، ثم اختار موتته وختام حياته، فسجد لله، وصعدت الروح إلى بارئها في الوضع الذي يكون العبد فيه قريبًا من ربه، معلنًا الخضوع والعبودية، والاستسلام لإرادة الله.
كل ذلك تم وهذا المجاهد بعيد عن أعين الناس، فعل كل ذلك بينه وبين الله، ولعل الملائكة كانت معه تعينه وترقبه وتظلله بأجنحتها كما كانت تظلل عبدالله بن حرام(6)؛ ثم صعدت بروحه إلى بارئها جلَّ في علاه.
لقد كان يكفيه أن ينزوي في ظل الجدار منتظرًا الموت المحقق، لكنه جمع فضائل في مشهد الاستشهاد؛ إشارة التوحيد إما لنفسه إن كان عاجزًا عن الكلام، أو لعدوه الذي كان يصوره، مع عبادة السجود.
وقد كان هذا العدو المتحكم في الطائرة قادرًا على مغادرة الموقع بعد أن أصاب الهدف وشل حركة المجاهد، لكن كانت إرادة الله نافذة بأن يصور العدو المشهد كله، ويقوم بنشره لبث الإحباط والرعب في قلوب المجاهدين بأنهم مرصودون مكشوفون، وبأنهم أهداف سهلة القنص.
لكن الآثار المترتبة على بث هذا المشهد جاء ليؤكد أن الشهادة أسمى ما يسعى إليه المجاهد، وأنه ما خرج من بيته إلا بعد أن عقد بينه وبين مولاه صفقة، هذه الصفقة يبيع فيها العبد روحه وجسده لله مستسلمًا لفعل الله به من الرجوع غانمًا منتصرًا، أو الاستشهاد وتلف النفس وبذل المهجة، فيكون أجره عظيمًا لا يبلغه الكثير من المؤمنين.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «تَضَمَّنَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لاَ يُخْرِجُهُ إِلاَّ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَإِيمَانًا بِي وَتَصْدِيقًا بِرُسُلِي فَهُوَ عَلَيَّ ضَامِنٌ أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ أَرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ نَائِلاً مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا مِنْ كَلْمٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلاَّ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَهَيْئَتِهِ حِينَ كُلِمَ لَوْنُهُ لَوْنُ دَمٍ وَرِيحُهُ مِسْكٌ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلاَ أَنْ يَشُقَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا قَعَدْتُ خِلاَفَ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَبَدًا، وَلَكِنْ لاَ أَجِدُ سَعَةً فَأَحْمِلَهُمْ، وَلاَ يَجِدُونَ سَعَةً، وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي أَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلُ ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ»(7).
إن هذا الشهيد الساجد سيبعث يوم القيامة ساجدًا مكلومًا ينزف جرحه دمًا، لكنه نزف لا وهن معه يومئذ ولا ضعف في الجسد؛ فاللون فقط هو لون الدم، والرائحة المنبعثة رائحة المسك.. طوبى له!
ونسأله تعالى أن يجعل تلك الدماء فتحًا ونصرًا وتحريرًا لأقصانا، وعزة للأمة.
________________________
(1) أخرجه مسلم في «الجنة وصفة نعيمها وأهلها»، باب: «الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت»، ح(2878).
(2) تفسير ابن كثير (2/87).
(3) فيض القدير للمناوي (6/457).
(4) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (2/95)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي: صحيح.
(5) أخرجه أحمد في «المسند»، ح(12214)، وقال الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
(6) أخرج البخاري في «الجهاد»، باب: «ظِلِّ الْمَلاَئِكَةِ عَلَى الشَّهِيدِ»، ح(2816) عن جَابِر قال: جِيءَ بِأَبِي إِلَى النَّبِيِّ ﷺ وَقَدْ مُثِّلَ بِهِ وَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَذَهَبْتُ أَكْشِفُ عَنْ وَجْهِهِ، فَنَهَانِي قَوْمِي، فَسَمِعَ صَوْتَ صَائِحَةٍ فَقِيلَ: ابْنَةُ عَمْرٍو، أَوْ أُخْتُ عَمْرٍو، فَقَالَ: «لِمَ تَبْكِي أَوْ لاَ تَبْكِي، مَا زَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا».
(7) أخرجه مسلم في «الإمارة»، باب: «فَضْلِ الْجِهَادِ وَالْخُرُوجِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»، ح(1876).