سيد السمكري
كنت وزميلي سعد إدريس حلاوة، نحلم بمستقبل عريض. جمعنا فصل واحد، ومقعد واحد، وظللنا كذلك حتى الشهادة الإعدادية، لم يشعرني يومًا أنه ابن العائلة الكبيرة التي تتوارث العمودية، وتملك أكبر مساحة من الأرض الزراعية في قريتنا أجهور، ولم يعاملني على أساس أنني ابن حسن السمكري الذي يصلح بوابير الجاز، ويلحم الأطباق الصاج وأواني غلْي الشاي، والكيزان المخرومة..
بعد الإعدادية التحق سعد بالثانوي العام ليواصل تعليمه الجامعي، أما أنا فقد نزلت عند رغبة أبي ودخلت التعليم الفني، حين قال لي:
– أنت تعرف البئر وغطاءه. ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، واللقمة القريبة خير من اللقمة البعيدة، وكل شيء قسمة ونصيب!
قلت له راضيًا:
– أعلم يا أبي. ولن أكلفك مالا تطيق..
لم تفرقنا الأيام، سعد في الثانوي، وأنا في التجاري، نلتقي كل يوم في طريقنا إلى طوخ، يذهب إلى مدرسته، وأعرج على مدرستي، وفي المساء نلتقي في المسجد أو عند الساحة حيث يلعب الشبان الكرة الشراب، وفي ليالي الصيف المقمرة، نمضي إلى الحقول ونجلس في الخلاء ومعنا بعض الزملاء نحكي ونثرثر، ونحلم بالغد الآتي، ونناقش خطب الزعيم ومقالات “بصراحة” التي لا تعرف الصراحة كما يقول سعد، ونتحول إلى سياسيين كبارًا في زمن موت السياسة!
ولما امتلك بعضنا راديو ترانزستور، كان يرافقنا في سهرات الصيف بالقرب من الحقول، نسمع فيه الأخبار والخطب الحماسية، وخاصة خطب الزعيم وأحمد الشقيري، وبيانات منظمة فتح وإذاعتها التي كانت تبث من القاهرة وتبدأ بثها بقوله تعالى: “إنا فتحنا لك فتحا مبينا”، ونحفظ نشيدها (أنا ابن فتح ما غنيت لغيرها..) ونتمنى أن نكون فدائيين لنحرر فلسطين، ونعيد اللاجئين إلى ديارهم، كما تغني لهم فيروز: راجعون.. راجعون..
أنهينا الدراسة، سعد حصل على الثانوية ومضى إلى القاهرة ليلتحق بالجامعة، وحصلت أنا على الدبلوم وانتظرت وظيفة لم تأت! فرحت أعمل أعمالًا متقطعة باليومية أو الأسبوع، لأساعد الوالد، فلا يجوز أن أقعد بلا عمل مهما كان الأمر، وفوجئت بسعد يعود من القاهرة، ويخبرني أن وفاة والده وتحمله المسؤولية تجعله يقوم بواجبه تجاه أسرته برعاية الأرض ومباشرة زراعتها، وهي مسألة ليست هينة على كل حال في ظل التزامات عائلية واجتماعية كثيرة.
***
أراد أبي أن يزوجني، وأن يفرح بي كما يقول. فذكّرته:
– بيتنا قديم يتداعى، ويحتاج إلى بناء جديد كي يستقبل العروس، وأنا بلا عمل ثابت، وبناء أسرة يحتاج إلى مورد للإنفاق.
قال والدي مهوّنا الأمر:
– خليها على الله، وهو الكريم الذي يقدّر الأقدار.
أبي من النوع الذي يترك الأمور لله، يؤكد أن الرزاق موجود، وكل دابة في الأرض على الله رزقها يعلم مستقرها ومستودعها.. لا يهاب الفقر ولا الجوع، ويذكرني دائمًا أن السعي واجب والرزق على الله.
أخذت أمي تنتقي لي فتاة تقتنع بها هي، ولما قلت لها:
– من التي ترضى بي وأنا شبه عاطل لا أملك وظيفة؟
قالت بحنان الأم:
– أنت زين الشباب، تحمل شهادة، ورجل ملء هدومك، وتتمناك كل البنات.
قلت لها:
– فلنصبر حتى أجد عملًا ثابتًا، وأبني البيت!
– علينا أن نسعى يا بني، والله المستعان.
طيبة أمي بغير حدود، وأحلامها لا تتوقف مع أنها تعرف جيدًا قدرة أبي وإمكاناتي، فاجأتني بعرض لم يخطر على بالي:
– لماذا لا أخطب لك بنت شيخ البلد عسران؟
ابتسمت للمباغتة، وقلت لها محاولًا استيعاب فكرتها:
– وهل تظنينه يا أمي يرضى بنا؟
– لم لا؟ كلنا أولاد تسعة!
ضحكت، وحاولت أن أحوّل الأمر إلى فكاهة:
– ولكنه من أبناء سبعة! أما سمعت عن خُلقه الضيّق؟
تبسمت وقالت بودّ الأمومة: لا تمزح يا سيد، إن الذي يتزوج ابنته ليس أفضل منك.
أمي تعلم أن شيخ البلد عسران مشهور بالبخل، لا ينفق إلا لضرورة، وعلاقاته الاجتماعية محدودة، وقد وصلت إليه مشيخة البلد بالوراثة، وهو حريص على توسيع مساحة ما يملكه من أرض زراعية، كل قرش يضعه فوق الآخر ليشتري بضعة قراريط كل عام أو بعض فدان، البيت يأكل من الغيط، الخضروات يزرعها على رأس الأرض: البامية، الطماطم، الفلفل، الملوخية، الباذنجان، الخيار، العجور، البطاطس.. وهناك شجرة عنب شبه تكعيبة تظلل الكوخ الذي يقيل فيه أو يتغدى ويشرب الشاي، أما اللبن والجبن والسمن والبيض، واللحم الذي يؤكل كل أسبوعين وفي المواسم، فمن الحظيرة وتربية البيت، لا يتوسع في شراء الملابس أو الفاكهة أو الحلويات، يشتري مقدارًا قليلًا إن لزم الأمر، وبالنسبة للخبز والفطير والقرص والفول المدمس فمن عطاء الأرض، والفرن المنزلي يعمل شبه يومي، الفلوس تخرج فقط لشراء الجاز (الكيروسين)، وسكر التموين، ويتنازل عن الزيت معظم الشهور عدا الشتاء، حيث يدخل السمك إلى الدار مع أيام الجفاف في الترعة، يقوم مع الأولاد والأقارب وجيران الحقل بعمل السدود لتصفية المياه في قاع الترعة واصطياد السمك البلطي والقراميط ويتقاسمون المحصول، وهنا يكون احتياج البيت للزيت من أجل قلي السمك، الذي يذهب معظمه للشي أو الطبخ!
سامحك الله يا أمي! عسران لا يليق بنا ولا نليق به! إنه يحتاج إلى شخص مثله ليتفاهما على نمط الحياة الذي يليق بهما..
***
غافلتني أمي وذهبت دون أن يعلم أحد في أسرتي إلى بيت عسران وفاتحتهم في خطوبة ابنته!
قالت لهم:
– سيد ابني معه شهادة الدبلوم، وتنتظره وظيفة يستطيع أن يفتح بها بيتا، ويرعى أسرة، وأتمنى له زوجة بنت حلال، تعيش معه وتصون كرامته.
قالوا لها:
– أنعم وأكرم، وفقه الله لما يحب.
قالت أمي دون أن تبالي بعجرفة بعض النساء ونظراتهن الساخرة:
– جئت أطلب القرب منكم.
قالت لها زوج عسران، وآثار العجين على يديها:
– خيرًا إن شاء الله.
– أريد ابنتك الكبيرة عروسًا له..
بدت الدهشة على المرأة المخضرمة، وأدركت أن المسألة تحتاج إلى حسم:
– هذه المسألة يبتّ فيها الرجال. وحين يوافقون سنرسل إليكم.
شعرت أمي بالهزيمة، فقد كانت تنتظر نوعا من المجاملة على الأقل، ولكن إجابة المرأة المخضرمة أصابتها بصدمة لم تكن تتوقعها، فقد ردت عليها ولزمت الصمت، ولم تجد أمي مفرًا من النهوض للمغادرة، ولم تسمع كلمة “شرفت” أو “حصلت البركة”، وكأن نساء عسران يبخلون بكلمة مجاملة طيبة يوجهونها لامرأة سعت إلى مشروع خير، كأنهن كن يتعاملن مع واحدة من غمار الناس تمر عليهن ولا يعرفنها…!
لم تقل أمي شيئا عن مشوارها إلى بيت عسران، ولكن الأخبار جاءت على أفواه الناس، وقال لي بعض زملائي الشباب: إن عائلة عسران تروّج في البلدة أنك خطبت ابنته الكبرى، فاستيقظ بعض أقاربها لخطبتها بوصفهم أحق بها من الغريب!
شعرت بغصة وحسرة، وعجبت لاستثمار عائلة البخيل لزيارة أمي التي لم يجاملوها بكلمة حسنة، إلى هذا الحد تبلغ النظرة التجارية؟ اسميها تجارية، فهذه أخلاق البخلاء، لا يحسنون إلى الناس، وفي الوقت نفسه يتاجرون فيما يمكن أن يكون عائده المادي كبيرًا عليهم.
سامحك الله يا أمي!
لماذا ذهبت إلى القوم؟ أعلم أنك طيبة إلى حد السذاجة، وأن الابن في عين أمه غزال، وفارس لا مثيل له، أما كان الأجدى أن تستشيريني أولًا فأنا الذي يعنيه الطعام ويتذوقه، أو تخبري أبي بما أردت، واعتزامك زيارة القوم؟
لو سألتني يا أمي لقلت لك إن ابنتهم التي أعرفها مذ كنا في المرحلة الابتدائية دمها “واقف”، تشبه المسلى الصناعي! لا أحب طعمها ولا أرغب فيها ولا أستريح لأبيها، لقد كسروا خاطرك، ونظروا إليك نظرة دونية، ولكنك كبيرة في عيني، وأكبر من كل فدادين عسران، نحن فقراء حقًا، ولكننا أغني بعزة النفس والمروءة والكرامة.. لن أعاتبك ولن أسألك لماذا ذهبت وما ذا سمعت. سأعمل وأعمل وأبحث عن وظيفة ثابتة لأبني البيت كي يليق بكم، وأكون بعدها جاهزًا للزواج من امرأة لا تستعلي عائلتها ولا هي عليك ولا على أبي ولا على من ينتمون إلينا…
***
جاءت الأنباء تكشف عن أحداث كبرى، سحب قوات الطوارئ الدولية، إغلاق خليج العقبة في وجه سفن العدو الصهيوني، حشد القوات المصرية في سيناء، الرديف ذهب بالجلاليب يبحثون عن كتائبهم ووحداتهم العسكرية، الصحف تتكلم عن الجيش المصري وقائده، وتبرز تصريحات قائد القوات الجوية عن أكبر سلاح للطيران وأقوى قوة ضاربة في الشرق الأوسط، قلت لصديقي إسماعيل عطية تعقيبًا على تصريحات قائد الجو:
– أليس هو نفسه قائد الطيران في عدوان 56 الذي دُمّرت طائراته كلها على أرض سيناء؟
قال إسماعيل:
– أجل! هو نفسه.
– لقد سمعت أنهم سألوه يومها: لماذا لم تحلق طائراتك لمواجهة طيران العدو فتعرقل تقدم قواته البرية وتقلل خسائرنا؟ فأخبرهم أنها لم تكن مزودة بالوقود!
– ومع ذلك استمر أكثر من عشر سنوات قائدًا للطيران!
– ربنا يستر!
سمعت أن بعض كتائب الجيش في اليمن عادت، وذهبت مباشرة إلى سيناء، في اليمن أربعة أو خمسة من قريتنا، منهم عبد الله حلاوة شقيق العمدة، والأستاذ عنتر الكاشف، وهو مثل عبد الله مجند قديم إن لم يكن أقدم.. أعادهم الله بالسلامة.
كنا مجيّشين للهتاف من أجل الجيش الذي سيقضي على السرطان الصهيوني في فلسطين، وألهبت الإذاعات خاصة إذاعة صوت العرب مشاعرنا، وكانت إذاعة صوت فلسطين أو إذاعة فتح تشبه صوت العرب، وكان أحمد الشقيري رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ضيفها الدائم بصورة شبه يومية، يجلس بالساعات في الأستوديو أو في مؤتمراته ولقاءاته المتلاحقة يبث فينا بصوته القوي، أمل التحرير وعودة اللاجئين وتحقيق السلام.
***
دقت طبول الحرب! ارتفعت نبرة الإذاعات والصحف لتجييش الشعب بل الأمة، الخطاب الرسمي يعبر عن قدوم اللحظة المنتظرة منذ زمان، فقد آن لمصر والعرب أن يستريحوا من سرطان العدوّ في فلسطين المحتلة، والزعيم الملهم يعلن في مؤتمره الصحفي بكل ثقة: “أنا مش خرع زي مستر إيدن!”، والصحفيون الأجانب يبحثون عن معنى كلمة “خرع” ليصوغوها في كلمة أخرى يفهمها الغرب!، وكان برنامج ليالي “أضواء المدينة” ينتقل من مكان إلى مكان، حتى استقر ليلة الخامس من يونية في قاعدة أنشاص الجوية بالقرب من بلبيس بمحافظة الشرقية.. حشد المشرفون على البرنامج أكبر عدد من أشهر المطربات والراقصات والممثلات، وأهل الطبل والزمر والتهريج، وحضر الحفل التاريخي حتى مطلع الفجر نسور الجو وكبار الضباط والقادة وعلى رأسهم قائد الطيران العتيد، وكانت الإذاعة ومعها التلفزيون ينقلانه على الهواء مباشرة ليستمتع الشعب والأمة بالفن العظيم والنصر المرتقب!
كنا في هدأة الليل نتابع الحفل بين الحقول وعلى شواطئ المجاري المائية.. سعد حلاوة كان منزعجًا، لأنه لا يحب مثل هذه الحفلات التي تنقلها الإذاعة، وينشغل عادة بسماع الشيخ الحصري في إذاعة القرآن، ويهتم بمتابعة نشرة الأخبار في إذاعة هنا لندن، ويصغي لتحليلات الكتاب والسياسيين، ويقول لنا نحن الزملاء:
– ما أبعد الفارق بين ما يقوله أحمد سعيد، وما تذيعه (هنا لندن).
يرد أحدنا بعصبية:
– إنك تستمع لإذاعة الأعداء المستعمرين، وهم كذابون، لا يحبوننا!
فيقول مستسلما:
– ليت الأمر كذلك، كنت ذبحت عجلا ووزعته على الفقراء!
يرد أحدنا مستغلًا فرصة إذعانه:
– نحن فيها، عليك بتجهيز العجل، وبعد عودة قواتنا من تل أبيب، اذبح على الفور، واجعل لنا مائدة خاصة بجانب الفقراء!
في عودتنا إلى بيوتنا من أجل النوم نضحك ونمزج بعد المناقشات التي تشعلها أجهزة الدعاية وخطب الزعماء، وأحلام اليقظة التي لا تتوقف.
***
في الظهيرة يوم الخامس من يونية، سمعت أن شيخ البلد عسران، وافق على خطبة ابنته لواحد من عائلة أخرى، استغربت، لأنه كان من المتوقع أن يزوجها لواحد من أبناء عائلته، ولكن الآخر فيما يبدو لديه كمية كبيرة من الطين، يعني عددًا كبيرًا من الأفدنة الزراعية التي يسمونها بالأطيان، ويتوقع أن يكون العريس ممن يرثون المساحة الأكبر بعد رحيل والده.. وبينما كانت القرية تتهامس بالخبر، سمعت في راديو الدكانة المجاورة لبيتنا مذيعًا يهتف بصوت جهوري: “بشرى يا عرب.. بشرى يا عرب!”. اقتربت من الدكانة لأسمع وأتابع المذيع صاحب الصوت العالي في صهد يونية الحارق. “أسقطنا عشرات الطائرات المعادية، قواتنا تتقدم في الأرض المحتلة، جنودنا يحققون النصر”.. الأغاني القديمة والأغاني الجديدة تتحدث عن الوطن والدفاع عنه، ” مصر التي في خاطري وفي فمي.. ” أخي جاوز الظالمون المدى فحق الجهاد وحق الفدا..” والله زمان يا سلاحي.. اشتقت لك في كفاحي”…
عند المساء كانت عدد الطائرات المعادية التي أسقطت تجاوز المائة بكثير.. ولكن الملعون راديو “هنا لندن” كان له رأي آخر، يكتمه سعد حلاوة، ولا يصرح به كي لا ندخل في مناقشات عبثية.. دار الإذاعة “الإسرائيلية” من أورشليم القدس ترد على أحمد الشقيري الذي كان يهتف بصوته العالي مشيرًا إلى تقدم القوات العربية في القدس الغربية: الله أكبر.. حررنا جبل المكبّر! لم يستطع أحدنا أن يشير إلى ما تقوله الإذاعات الخارجية، سهرنا الليل، ونسينا الطعام والشراب، ولم نفكر في إشعال الراكية وشيّ الذرة.. توقفت البيانات العسكرية في الراديو أو توقفت على رأس الغيط، كان الصمت يلفنا بعد أن خفتت لهجة الدعاية الهوائية في الليل، والقرية تلملم بقايا احتفال شيخ البلد عسران بخطبة ابنته إلى رجل الطين! سامحك الله يا أمي صنعت سوقًا لبنت عسران، ورجعت بالكسوف والحسرة. آه لو شاورتني أو شاورت أبي ما كنا لنسمح لك بالذهاب مهما كانت الظروف، وما كنت صنعت سوقًا لبنت عسران، ولكن حنانك وطيبتك فاقا الحد!
في اليوم التالي بدت الأمور غيرها بالأمس، الوجوم يلف الوجوه، وبيانات القوات المسلحة تتحدث عن التمركز في خط الدفاع الثاني.. وانفتح المجال للحديث عما تقوله إذاعات العدو وأعوانه من دول الغرب، تدمير الطيران المصري جميعه على الأرض. مردخاي هود قائد الطيران اليهودي يرقص فوق مكتبه عقب عودة الطائرات الصهيونية التي دمرت في ساعة ونصف الطيران المصري صباح الأمس الخامس من يونية! احتلال قطاع غزة والوصول إلى المضايق، أسر عدد كبير من الضباط المصريين والجنود، من بينهم معلق الكرة الشهير! هناك كلام لم يتأكد بعد عن قرار بالانسحاب إلى الضفة الغربية للقناة! أيام سوداء أو أيام نحسات، عمّ الظلام الوجوه والقلوب، الشماتة اليهودية صارخة، كلام الأسرى المصريين في إذاعة العدو يحرق ما تبقى من الدماء، اللواء الدجوى حاكم قطاع غزة باسم مصر يشكر العدو لاهتمامه برعاية السيدة حرمه المريضة في مستشفياته! هنا لندن تتحدث عن فرار الضباط والجنود المصريين الحفاة شبه العراة في اتجاه القناة! سعد حلاوة يستعيد احترامه بيننا بآرائه وأفكاره.. العدو يعلن فتح خليج العقبة وتوحيد القدس والسيطرة على الضفة الغربية لنهر الأردن (يسميها يهودا والسامرا) وهضبة الجولان ومناطق في لبنان.. ماتت الرغبة في السهر بين الحقول، عبد الواحد أفندي السواح من أكابر البلد الذين يطالعون الأهرام يوميًا، يقول بعد صلاة المغرب لمجموعة من أهالي القرية تقف معه:
– لا بد أن يسلم البلد (يقصد الزعيم) لشخص آخر يستطيع مواجهة الموقف واستعادة ما استولى عليه اليهود!
أول مرة أسمع عن (شخص آخر). عبد الواحد أفندي تجاوز الكهولة، وقيل إنه كان وفديًا. لم أكن أتصور بحكم الدعاية أن يتخلى الزعيم الذي كنا نحبه حبًا جمًا وكان يرد على رسائلنا ونحن في الابتدائي ويرسل لنا صوره الشخصية التي نطلبها منه عن الزعامة والحكم! هل يترك البلد ويأتي آخر ليست له هيبته وقوته وخطبه المؤثرة؟
بادرت عبد الواحد أفندي منفعلًا:
– وكيف يأتي شخص آخر بدلًا من الزعيم؟
نظر إلى الرجل بإشفاق، وقال:
– المهزوم يا بني يدفع ثمن هزيمته، والبلد مليئة بأصحاب العقول والحكمة!
لم أفهم ماذا يقصد الرجل بالضبط. لزمت الصمت، وتحدثت بعدها مع سعد الذي آثر الصمت، ورد باقتضاب:
– يفعل الله ما يشاء!
يتبع…