ينقسم الناس تجاه ما يحدث لأمتنا الإسلامية وما نعيشه من هجوم على مقدساتنا وثقافتنا إلى ثلاثة أقسام.
الأول: مخدوع بما تمليه عليه ثقافة المحتل، ومتخاذل أمام ممارساته الإجرامية.
والثاني: حزين على حال الأمة، لكنه صامت وعاجز عن التعبير أو العمل.
أما الثالث: فهو المقاوِم لكل مظاهر الاحتلال، والمجاهد من أجل تحرير أمته وإرضاء ربه، وهذا الثالث هو الذي تُعَلِّق عليه الأمة الإسلامية آمالها، وهو الذي يحقق لها عزتها، ويعيد إليها كرامتها، ويبني لها مجدها ونهضتها، ولهذا كان لزاماً علينا أن نقف مع هذا النوع من الناس، وأن نتعرف على أفكاره وخطابه وأفعاله التي تعبر عن الوجه المشرق لهذه الأمة، فما أهم المرتكزات التي يقوم عليها الخطاب الدعوي المقاوِم؟
خطاب المقاومة يتخلى عن اليأس ويتميز بالقوة ويرفض السلبية ويتحلى بالإيجابية
إن الخطاب الصادر من أهل المقاومة والجهاد يتخلى عن اليأس والهزيمة النفسية، ويتميز بالقوة الإيمانية، ويرفض السلبية والدونية، ويتحلى بالإيجابية والفاعلية، نجد هذا واضحاً في الحديث الشريف الذي أخرجه البخاري عن خباب بن الأرت، قال: شَكَوْنَا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ متوسِّد بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَقُلْنَا: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلَا تَدْعُو لَنَا؟ فَجَلَسَ مُحْمَراً وَجْهُهُ، ثم قَالَ: «قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ، يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهَا، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ ليتمَّنَّ هَذَا الْأَمْرُ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، وَالذِّئْبَ عَلَى غنمه، ولكنكم تستعجلون».
دعائم الخطاب المقاوِم
ففي هذا الحديث الشريف بيان للمرتكزات والدعائم التي يقوم عليها الخطاب المقاوِم، وبيانها كما يأتي:
أولاً: التخلي عن اليأس والتمسك بالإيمان، ففي الحديث السابق نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم حين جاءه خباب، يقول: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ قد احمرّ وجهه غضباً، ليس من أجل طلب الدعاء والنصرة، بل لأنه شعر أن خباباً قد يتسرب إليه بعض اليأس(1)، ولهذا جاء العلاج النبوي باستدعاء أحوال المؤمنين السابقين، الذين لم ييأسوا، فالمؤمن لا ييأس أبداً، حتى وإن هُزِم في معركة، ولهذا خاطب الحق عباده المؤمنين بعد انكسارهم في غزوة «أُحد»، قائلاً: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (آل عمران: 139)؛ أي لا تضعفوا بسبب ما جرى لكم، فأنتم الأعلون في المكانة والديانة.
ثانياً: إعلان الحق والتمسك به؛ فإن التحديات والصعوبات والتضحيات لا يمكن أن تزعزع العقيدة الإيمانية أو تصد المسلم عن الدين الحق، ولهذا ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم لخباب أحداثاً من التاريخ، تؤكد أن المؤمنين من قبله قد مرُّوا بما هو أشق من ذلك، فما لانت لهم قناة، ولا ضعفت لهم عزيمة، بل ثبتوا حتى انتصروا.
وفي هذا الخطاب ما يربي في نفس المقاوِم أن يتحلى بالعزيمة ولا يبحث عن الرخصة، فإن السابقين من المؤمنين كانوا يُنْشَرون بالمناشير ويُمشطون بأمشاط الحديد، لكنهم لا يرتدون أو يتخاذلون.
على المقاومين أن يتمسكوا بالحق ويستعينوا بالله ويعتزوا بدينهم وقضيتهم ويصبروا
وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم المثل الرائع في التمسك بالحق، حين قدم كبار أهل مكة إلى عمه أبي طالب، يشتكون له أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعرضون عليه ما يريد من متاع الدنيا من أجل أن يتخلى عن دعوته، فتكلم أبو طالب مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فجاء جوابه في هذا الخطاب البديع، يقول: «يَا عَمِّ، وَاللَّهِ لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ، أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ مَا تَرَكْتُهُ»(2).
إنه مثال رائع في الخطاب المقاوِم للضغوط من خلال إعلان الحق والتمسك به.
ثالثاً: التذكير بمصير السابقين من أجل تثبيت المؤمنين وإرعاب الظالمين، فقد ساق الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه لخباب مثالاً لما لاقاه أهل الإيمان من قبله، وما قدموه من صبر وثبات وعزم حتى الممات، ففي هذا دافع إلى الاقتداء بهم والسير على دربهم، ولهذا جاء الخطاب القرآني للصحابة بعد غزوة «أُحد»، يذكرهم بمصير السابقين الذين أصيبوا بمثل ما أصابهم، لكنهم لم يضعفوا أو يتخاذلوا، بل صبروا وقاوموا، قال تعالى: (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) (آل عمران: 146).
كما يجب على المقاوِم أن يذكر لعدوه مصير السابقين من الظالمين وما أصابهم من الهلاك المبين، من أجل تخويفهم وإرعابهم، وقد ذكر القرآن الكريم جانباً من ذلك في خطاب مؤمن آل فرعون، حين خوفهم بالعقوبات التي أصابت من قبلهم، فقال لهم: (وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ {30} مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ) (غافر).
رابعاً: الثقة في النصر والتبشير به، ففي حديث خباب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والله لَيُتِمَّنَّ اللهُ هذا الأمرَ»؛ إنه يثق في نصر الله والتمكين لهذا الدين، لدرجة أنه يقسم بالله على ذلك، وفي هذا بناء للخطاب المقاوِم الذي يستمد قوته من يقين صاحبه في نصر الله، فالله تعالى وعد بذلك في قوله: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (غافر: 51)، وفي غزوة «بدر الكبرى»، أشار الصحابة على الرسول صلى الله عليه وسلم بالخروج لملاقاة المشركين، فقال لهم: «سِيرُوا وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّ اللهَ قَدْ وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَاللهِ لَكَأَنِّي أَنْظُرُ الْآنَ مَصَارِعَ الْقَوْمِ»(3)، فهذا خطاب يرتكز على الثقة في نصر الله والاستبشار بذلك.
العزة والقوة
خامساً: إظهار العزة والقوة رغم الألم والقسوة؛ فعندما جاء خباب يطلب الدعاء من الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن أطلعه على ما يتعرض له هو وأصحابه من الأذى؛ لم يجب الرسول صلى الله عليه وسلم خباباً إلى ذلك في هذا الموقف، رغم أنه رقّ لحاله ودعا له في موقف آخر، وذلك حين أتاه النبي صلى الله عليه وسلم ووجد سيدته (أم أنمار) تأخذ الحديدة وقد أحمتها بالنار ووضعتها على رأسه، فقال صلى الله عليه وسلم: «اللهم انصر خباباً»(4).
المقاوِم رغم قسوة الألم لا ينبغي أن يظهر ضعفه أو يأسه وإنما يظهر قوته وعزته
فلماذا دعا النبي صلى الله عليه وسلم له في هذا الموقف ولم يدع له في موقفه عند الكعبة؟ ولعل الجواب: أنه خاف أن يتسرب إلى نفس أصحابه بعض الضعف أو اليأس أو الاستعجال، فأراد أن يظهر لهم جانب القوة والعزة، ويدعوهم إلى التحمل والصبر، فالمقاوِم رغم قسوة الألم وشدته لا ينبغي أن يظهر ضعفه أو يأسه، وإنما يظهر قوته وعزته، فهذا عثمان بن مظعون رضي الله عنه، بعد أن ردّ على الوليد بن المغيرة جواره، تطاول عليه أهل مكة وضربوه حتى فقئوا إحدى عينيه، فقال له الوليد: أما والله يا ابن أخي كانت عينك عما أصابها لغنية، لقد كنت في ذمة منيعة، قال عثمان: بل والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في الله، وإني لفي جوار من هو أعز منك وأقدر(5).
وهذا خبيب بن عدي حين أسره الكفار، وعذبوه أشد العذاب، وعندما أرادوا أن يصلبوه، قالوا له: أتحب أن محمداً مكانك؟ فأجاب: والله ما أحب أني بين أهلي، ومحمد صلى الله عليه وسلم في المكان الذي هو فيه تشوكه شوكة.
فهذه المواقف تثبت أن الخطاب الدعوي المقاوِم يرتكز على إظهار العزة والقوة رغم الألم والقسوة.
سادساً: الاستعانة بالله وعدم الخوف من العدو؛ فقد لفت الرسول صلى الله عليه وسلم النظر إلى ذلك في حديث خباب حين قال: «لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ»، فالمؤمن يخاف من الله لا من عدوه، امتثالاً لقوله تعالى: (فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) (المائدة: 44)، بل إنه يستعين بالله تعالى على عدوه، فمن فعل ذلك نصره الله وأيده ووقاه، قال تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ {173} فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) (آل عمران)، وقال عز وجل قول مؤمن آل فرعون: (فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ {44} فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ) (غافر).
فعلى أهل المقاومة والجهاد أن يتمسكوا بالحق الذي آمنوا به، وأن يستعينوا بالله على عدوهم، ويعتزوا بدينهم وقضيتهم، ويصبروا على ما أصابهم، حتى يأتي الله بنصره، (وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً) (الإسراء: 51).
__________________________
(1) السيرة النبوية، د. راغب السرجاني، ص 70.
(2) البداية والنهاية، ابن كثير (1/ 474).
(3) دلائل النبوة، البيهقي (3/ 4).
(4) السيرة الحلبية (1/ 425).
(5) سيرة ابن هشام (2/ 14).