على عكس سياستها التي استمرت لعقود من الزمن في مقاطعة محكمة العدل الدولية وقضاتها الـ15 المنتخبين، تبدأ محاكمة دولة الاحتلال «الإسرائيلي» أمام المحكمة يومي 11 و12 يناير 2024م.
وذلك في الطلب المقدم من جنوب أفريقيا، الذي يتهم الصهاينة بارتكاب أعمال «إبادة جماعية» في قطاع غزة.
أهمية المحاكمة أن جنوب أفريقيا تريد أن تأمر أعلى محكمة في الأمم المتحدة «إسرائيل»، على نحو عاجل، بوقف عملياتها العسكرية في غزة باعتبارها «إبادة جماعية».
فهناك شقان في قضية جنوب أفريقيا؛ «عاجل» يطالب بوقف الحرب، كي يمكن نظر تفاصيل لاحقاً والحكم ضد الاحتلال أم لا؟ وهذا ما جعل «إسرائيل» تعلن عن «مرحلة ثالثة» للعدوان تشمل هجمات محدودة كي تزعم أن ما يجري هو اشتباكات وليست حرباً.
أما الشق الثاني فهو الشق العادي المتعلق بتقديم أدلة تطالب بمحاكمة مرتكبي جرائم الحرب الصهاينة، وهذا يستغرق وقتاً أسابيع وربما عدة شهور.
وتطالب جنوب أفريقيا، في الشق الأهم والعاجل، بوقف فوري وشامل لإطلاق النار في غزة، وذلك كإجراء مؤقت الذي قد يتم البت فيه على وجه السرعة لحين الانتهاء من نظر القضية.
لذلك تسعى جنوب أفريقيا، التي انضمت لدعواها تركيا وماليزيا ومنظمة التعاون الإسلامي والأردن، لطلب وقف فوري للعدوان على غزة من جانب المحكمة، وإدانة «إسرائيل» بتهمة الإبادة الجماعية.
أما الحكم النهائي المتعلق بجريمة الإبادة الجماعية، الذي تتوقعه جنوب أفريقيا والعالم، فقد يستغرق عدة أسابيع أو أشهراً تستمر خلالها الحرب.
تريد أن تصدر المحكمة حكماً مؤقتاً عاجلاً بوقف العدوان أثناء نظر القضية، كما تؤكد صحيفة «الغارديان»، في 4 يناير الجاري، و«وكالة أسوشيتد برس»، في 5 الجاري.
ومهما كان قرار المحكمة في الشقين المستعجل والعادي، فهو حكم ملزم قانوناً، ولكن لا يعني ذلك التزام الأطراف به، وفق خبراء قانون؛ ما يعني احتمال استمرار العدوان أثناء نظر القضية أو رفض الاحتلال وقف إطلاق النار، وإن كان سيزيد الضغوط السياسية والأخلاقية على «إسرائيل» وأمريكا حال صدر بوقف العدوان.
وتقدم وثيقة جنوب أفريقيا عدداً كبيراً من الأدلة على أعمال الإبادة الجماعية المتعمدة في غزة، وقسمها إلى 7 فئات رئيسة؛ هي: حجم عمليات القتل التي تجاوز ضحاياها 23 ألف شهيد؛ 70% منهم نساء وأطفال، والمعاملة القاسية واللاإنسانية لأعداد كبيرة من المدنيين، من بينهم أطفال اعتقلوا وعُصبت أعينهم وأجبروا على خلع ملابسهم والبقاء في الخارج في طقس بارد قبل نقلهم إلى أماكن مجهولة.
ويقول د. حسن نافعة، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة: “إن صحيفة الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا لمقاضاة «إسرائيل» أمام محكمة العدل الدولية كتبت بحرفية وبإتقان شديدين؛ لذا تواجه المحكمة اختباراً صعباً ستسقط فيه حتماً إن لم تصدر أمراً بوقف إطلاق النار في غزة في أسرع وقت، تحية لجنوب أفريقيا التي تخوض معركة قضائية كبرى ضد «إسرائيل» بينما تقاعس العرب”.
لماذا تترافع «إسرائيل»؟
غالباً ما تتجاهل الدولة الصهيونية المحاكمة والقوانين الدولية وتحتقرها، متلحفة بالولايات المتحدة التي تحميها وتفعل مثلها، لكن هذه المرة قررت حكومة نتنياهو المشاركة في المحكمة والترافع عن التهمة الموجهة لها؛ إذ إن «إسرائيل» هي إحدى الدول الموقعة على اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، وتدعي أنها انضمت لها باعتبارها ضحية للمحرقة النازية بإبادة اليهود، وبالتالي فهي تخضع لولاية محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة ولأحكامها.
وتخشى دولة الاحتلال من خسارة القضية بسبب جرائمها العديدة المرصودة بالفيديو والصورة، لذلك أصدرت وزارة الخارجية «الإسرائيلية» تعليمات لسفاراتها بالضغط على الدبلوماسيين والسياسيين في البلدان المضيفة لهم لإصدار بيانات ضد قضية جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية وفقًا لبرقية نشرها موقع «أكسيوس» الأمريكي، في 5 يناير.
وتقول صحيفة «الغارديان» البريطانية: إن موافقة «إسرائيل» على الدفاع عن نفسها أمام المحكمة، لأنها من الدول الموقعة على اتفاقية الإبادة الجماعية، سيجعل من الصعب عليها أن تتجاهل أي نتيجة سلبية للمحكمة ضدها.
لكن هذا لن يعني قبولها بقرارات المحكمة، وإنما التحايل عليها بالزعم أنها لا تقوم بحرب في غزة، وإنما ترد على عدوان «حماس» بعمليات محدودة، أو أنها سحبت قواتها، والمماطلة.
ومطلع يناير الجاري، قالت صحيفة «هاآرتس»: “إن «إسرائيل» تشعر بقلق بالغ إزاء حكم محكمة العدل الدولية بشأن ارتكاب إبادة جماعية في غزة، وأن تتهمها محكمة العدل الدولية بارتكاب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين نتيجة حرب غزة وقتل الشعب الفلسطيني”.
السيناريوهات المتوقعة
المتوقع، وفق خبراء القانون الدولي، أن تُصدر محكمة العدل الدولي حكماً بوقف الحرب بشكل فوري كي تتمكن من نظر المرافعات دون ضغوط أو تأثيرات خارجية على المترافعين، وأن يكون حكمها النهائي أيضاً بإدانة الإبادة الصهيونية لأهالي غزة.
ويساعد على هذا التوقع بصدور تدبير مؤقت بوقف العدوان، أن المحكمة أصدرت على مدار الأعوام العشرة الماضية تدابير مؤقتة في 11 قضية؛ أي بمعدل تدبير كل عام تقريباً، وذلك تطور مهم مقارنة بـ10 قضايا في الخمسين سنة الأولى من وجود المحكمة (1945 – 1995م).
حيث تسعى التدابير المؤقتة لمحكمة العدل الدولية إلى تجميد الوضع القانوني بين الأطراف لضمان نزاهة الحكم النهائي في المستقبل، وهو هنا سيكون وقف العدوان «الإسرائيلي» لحين التحقق مما إذا كان إبادة جماعية أم لا؟
وهناك سوابق أخري للمحكمة ضد الاحتلال مثل حكمها ضد الجدار العازل عام 2004م بناه الاحتلال في الضفة الغربية، الذي اعتبرته المحكمة كأن لم يكن، ومطالبتها «إسرائيل» بهدمه، وهو ما لم يحدث، وهنا مشكلة قرارات المحكمة، فرغم أنها أداة دولية وتابعة للأمم المتحدة، فليس لديها قوة دولية لتنفيذ قراراتها مثلها مثل المحكمة الجنائية الدولية التي حين تصدر قرارات ضد قادة متهمين بجرائم حرب فهي ليس لديها القدرة على تنفيذها، وتعتمد على استعداد الدول المختلفة لتنفيذ قراراتها، وهو ما يتعرقل دوماً بمصالح الدول الكبرى.
ففي قضية أوكرانيا على روسيا، أمرت محكمة العدل موسكو بتعليق غزوها على الفور، لكن موسكو تجاهلت القرار، وهو ما يتوقع أن تفعله «إسرائيل» بدعم أمريكي.
لهذا تقول صحيفة «الغارديان»: إنه سواء قبلت «إسرائيل» القرار بوقف الحرب أم لا لو فازت دعوى جنوب أفريقيا، سيلحق ذلك ضرراً بسمعة «إسرائيل» نتيجة لهذا الحكم، والأهم أنه سيزيد الموقف الأمريكي الداعم لـ«إسرائيل» سوءاً أمام العالم.
ويقول خبراء قانون دولي: إن «الإسرائيليين» يشعرون لأول مرة أنهم تحت التهديد، وأن قادتهم السياسيين والعسكريين عرضة للسجن والملاحقة لأن قرارات المحكمة نافذة.
وأنه لهذا حشدت «إسرائيل» كل خبراء القانون الصهاينة والأجانب لأنها في مأزق حقيقي أمام جنوب أفريقيا التي سيسجل لها التاريخ أنها انتفضت للدفاع عن شعب فلسطين، بينما الحكومات العربية والإسلامية إما شاركت في حرب الإبادة أو سكتت عنها!
ولأن الرفض الصهيوني لأي حكم يصدر ضدها متوقع، قال الكاتب البريطاني ديفيد هيرست، رئيس تحرير موقع «ميدل إيست آي» البريطاني، في مقال، يوم 4 يناير: إن مصير العدالة الدولية يعتمد على هذه القضية المقدمة إلى محكمة العدل الدولية الذي تتهم فيه جنوب أفريقيا «إسرائيل» بارتكاب جرائم إبادة جماعية في غزة، موضحاً أن أهمية دعوى جنوب أفريقيا تكمن في أنها تتعلق بإبادة جماعية تحدث بشكل مباشر كل يوم، وستستمر إذا لم تتدخل أي قوة خارجية.
وأوضح الكاتب أنه لا حاجة إلى شهادة في القانون لفهم ما يجري، إذ يمكن الحصول على فكرة عن الإنتاج اليومي لخطاب الكراهية في «إسرائيل» من خلال مشاهدة مقاطع الفيديو الخاصة بالجنود والمطربين والفنانين والسياسيين والاستماع إليها.