بعث الله تعالى عيسى عليه السلام إلى بني إسرائيل نبياً ورسولاً، وقامت رسالته على توحيد الله، وإفراد الألوهية والربوبية له، ودعوة بني إسرائيل إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ومطالبتهم بالإيمان بأنه عبد الله ورسوله، وأنه ابن مريم، فهو رسولٌ بَشر عليه الصلاة والسلام، وبما أن نبوّة عيسى عليه السلام جاءت متممة مكمِّلة لنبوة موسى عليه السلام، فمن البديهي أن تكون قائمة على التوحيد، فالنصرانية الحقَّة لا تقول بوجود إله آخر غير الواحد الأحد، وما يناقض ذلك إنما هو انحراف عن حقيقة دعوة المسيح عليه السلام التي بيَّنها القرآن الكريم.
فإن توحيد الله عزَّ وجل كان غاية الأنبياء العظمى، كما كان الركيزة الأولى في دعوة عيسى عليه السلام، وقد نصَّ القرآن الكريم على أن عقيدة المسيح عليه السلام هي التوحيد الكامل، فلا يُعبد إلا الله، فالله خالق السماء والأرض وما بينهما فلا شريك له، هذا ما أعلنه المسيح منذ اللحظة الأولى لولادته، فلم يشذّ عيسى عليه السلام عن القاعدة العامة التي جاء بها الأنبياء ومن أجلها، فقد دعا قومه إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة، وكان ذلك أول ما نطق به وهو في المهد قال تعالى: (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً) (مريم: 30).
وفي هذا القول من عيسى إشارة واضحة إلى أن الذات الوحيدة التي تستحق العبادة هي ذات الله تعالى، وإلا ما اعترف بعبوديته له، ولما كان البعض قد يتوهم من قول عيسى عليه السلام أن هذا الإله مخصوص له لا لأحد سواه، نفى القرآن ذلك وأخبر عمَّا جاء على لسانه قال تعالى: (وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ) (مريم: 3)، كما أكّد القرآن الكريم أن عيسى عليه السلام كان دائم القول والتكرار لهذه الحقيقة بين قومه والتذكير بها، قال تعالى: (وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) (المائدة: 72).
ويذكر الشيخ رشيد رضا رحمه الله عند تفسيره لهذه الآية أن المسيح عليه السلام أمرهم بالتوحيد الخالص ودعاهم إليه، وحذَّر من الوقوع في الشرك، وتوعَّدهم عليه ببيان أن الحال والشأن الثابت عند الله تعالى هو أن كل من يشرك بالله شيئاً من ملك، أو بشر، أو كوكب، أو شجر، أو حجر، أو غير ذلك؛ فإن الله يحرِّم عليه الجنة في الآخرة، فلا يكون له مأوى ولا ملجأ يأوي إليه إلا النار. (محمد رشيد رضا، 1990، 4/ 400).
وقد رد القرآن الكريم على نصارى نجران الذين زعموا أن عيسى أمرهم أن يتخذوه رباً، قال تعالى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ) (آل عمران: 79)، فأكد أنه ما ينبغي لبشر اختاره الله للنبوة وآتاه الكتاب والحكمة، والعلم والفهم، أن يكذب على الله ويأمر الناس بعبادته من دون الله، ولكن جائز أن يقول لهم: كونوا ربانيين؛ أي: علماء معلمين؛ بسبب مثابرتكم على تعليم الكتاب ودراسته. (ابن الجوزي، 1/ 413).
وإن الآية الكريمة تُبين أن النبي عبد، وأن الله وحده هو الرب الذي يتجه إليه العباد بعبوديتهم وبعبادتهم، فلا يمكن أن يدَّعي لنفسه صفة الألوهية التي تقتضي من الناس العبودية، فلن يقول نبي للناس: (ونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ).
ولكن قوله لهم: (كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ)؛ أي كونوا عباداً له وعبيداً، توجَّهوا إليه وحده بالعبادة، وخذوا عنه وحده منهج حياتكم حتى تخلصوا له وحده فتكونوا (رَبَّانِيِّينَ)، كونوا (رَبَّانِيِّينَ) بحكم علمكم بالكتاب وتدارسكم له، فهذا مقتضى الكتاب ودراسته. (سيد قطب، 2003، 1/ 419).
هذه الحقيقة جاء بها الرسل أجمعون، فقررها في سيرة كل رسول وفي دعوة كل نبي، وجعلها محور الرسالة في عهد نوح عليه السلام إلى عهد محمد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، تتكرر الدعوة بها على لسان كل رسول، وكان من العجيب أن يكون من أتباع الديانات السماوية -وهي حاسمة وصارمة في تقرير حقيقة وحدانية الله تعالى– من ينسب لله سبحانه البنين والبنات، أو ينسب لله سبحانه الامتزاج مع أحد من خلقه في صورة الأقانيم، واقتباسات من الوثنيات التي عاشت في الجاهليات! (سيد قطب، 2003، 2/ 818).
وهنا يقول القرآن كلمة الفصل في ألوهية المسيح ونبوته، وألوهية روح القدس (أحد الأقانيم)، وفي كل أسطورة عن نبوة أحد لله، أو ألوهية أحد مع الله، في أيِّ شكل من الأشكال، يقول القرآن كلمة الفصل بتقريره أن عيسى ابن مريم عبدُ الله، وأنه لن يستنكف أن يكون عبداً لله، وأن الملائكة المقربين عبيد لله، وأن جميع خلائقه ستحشر إليه، وأن الذين يستنكفون عن صفة العبودية ينتظرهم العذاب الأليم، وأن الذين يقرُّون بهذه العبودية لهم الثواب العظيم. (سيد قطب، 2003، 2/ 819)؛ قال تعالى: (لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً {172} فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلُيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً) (النساء).
إنَّ المسيح ابن مريم لن يتعالى عن أن يكون عبداً لله؛ لأنه عليه السلام وهو نبي الله ورسوله خير من يعرف حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية، وأنهما ماهيتان مختلفتان لا تمتزجان، وهو خير من يعرف أنه من خلق الله، فلا يكون خلق الله كالله، أو بعضاً من الله، وهو خير من يعرف أن العبودية لله، فضلاً على أنها الحقيقة المؤكدة الوحيدة التي لا تنقص من قدره، فالعبودية لله مرتبة لا يأباها إلا كافر بنعمة الخلق والإنشاء. (صلاح الدين الخالدي، 1998، 4/ 387).
وبالتالي، هذه هي خلاصة دعوة عيسى عليه السلام ورسالته، وهذه هي الدعوة التوحيدية التي دعا إليها عيسى عليه السلام، وعلى هذا الأساس آمن به الحواريون، واتَّبعه المؤمنون الموحدون.