تلك الرسالة التي لم يسعفه الوقت أن يكتبها بقلمه، فكتبها بدمه الذكي النقي.
منذ عدة أيام ضجت شبكات التواصل الاجتماعي، مساء الجمعة 29 ديسمبر 2023م، بالحديث عن «الشهيد الساجد» الذي أراد الاحتلال أن يجعل منه عبرة فزاده الله عزة ورفعه فوق رؤوس عباده ليكون لهم قدوة، وقد تداول نشطاء مقطعاً مصوراً لا تتجاوز مدته دقيقة ونصف دقيقة، قلب مختلف المنصات رأساً على عقب لما تضمنه من رسائل عظيمة في الجهاد والصبر والثبات، وحسن الخاتمة، حيث وثق مقطع الفيديو المتداول اللحظات الأخيرة في حياة أحد مقاتلي المقاومة الفلسطينية أثناء تنفيذه لعملية ضد القوات «الإسرائيلية» المحتلة، وسرعان ما رصدته طائرة تابعة لقوات الاحتلال وقامت بالتصويب عليه وإصابته بالفعل، وانتهي الفيديو برفض المقاتل الاستسلام، ورفض أن يمنح العدو هذه الفرصة وهو مصاب، بل رفع سبابته ملوحاً للطائرة، ثم تحامل على نفسه رغم مصابه ليلقى ربه شهيداً ساجداً، ولسان حاله يقول:
وإذا لم يكن من الموت بُدٌّ فَمِن العار أن تموتَ جبانا
من هو «الشهيد الساجد»؟
هو تيسير أبو طعيمة، شاب فلسطيني يعيش بغزة، كرمه الله بأن يكون واحدًا من حفظة القرآن الكريم ويعمل إمام مسجد فلسطين في بلدة بشرق خان يونس بقطاع غزة، عرف بصوته الندي في تلاوة القرآن والإنشاد، وإن مما أثار دهشة المتابعين وجود كتيبة من «كتائب القسام» تسمى «كتيبة الحفاظ» لا ينتسب إليها إلا من اتصف بصفات عديدة على رأسها حفظ كتاب الله، وكان الشهيد أبو طعيمة ضمن هذه الكتيبة، في لحظة مؤثرة ومليئة بالتضحية والفداء لقي ربه شهيداً ساجداً محتسباً مقبلاً غير مدبر، تاركاً باستشهاده عدة رسائل مؤثرة ملهمة لم يكتبها بقلمه إنما كتبها بدمه، فما هي تلك الرسائل؟
إلى شباب الأمة الإسلامية
عندما كانت طائرات الصهاينة الغاشمة تُصوّر هذا المجاهد الشهيد من برجها العالي، تريد أن ترسل رسالة للعالَم مفادها: إننا قادرون على قتل هؤلاء الذين وقفوا في وجهنا، ونقنصهم من بين الدُّور والحواري والأزقّة، وسنصل إلى أخفاكم وأبعدكم.. أرادت بذلك أن تُرهب أهل غزّة خاصّة والعالم الإسلامي عامة، فانقلب السحر على الساحر بقدرة الله، فقدّمتْ أجمل مشهدٍ كمشاهد الصحابة الكرام؛ كجعفر، ومصعب، رضوان الله عليهم جميعاً، هؤلاء الذين تربينا على سيرتهم وبطولاتهم العطرة، مشهد يجدد به الله همة وعزيمة شباب هذه الأمة ويحثهم على الإقدام والجهاد، ويبعث فيهم حُبّ الشهادة من جديد، ويؤسّس لهم معالم الطّريق في هذا الصراع الطويل الذي لا ينتهي حتى يزول آخر مُحتلّ، ويرحل آخر صهيوني عن هذه البلاد الطاهرة.
فيا شباب الأمة، ثقوا بالله أولاً وبأنفسكم ثانياً، وأعدوا العدة على أن تكونوا جزءاً من معركة الأمة الكبرى، وأن يكون لكم سهم فيها، ولا تستمعوا إلى المثبطين الذين يقولون: إن الثمن غال، فنحن ننطلق من قول الله عز وجل: (وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) (النساء: 104)، شهداؤنا في الجنة وقتلاهم في النار بإذن الله.
يا شباب الأمة وأملها، اعلموا أن لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى المسجد الأقصى وفيكم عين تطرف، لا عذر لكم عند الله إن استبيحت ديار المسلمين وفيكم عين تطرف، لا عذر لكم عند الله إن لم تتحرر كل بلاد المسلمين وفيكم عين تطرف، لا عذر لكم عند الله إن لم يرجع كتاب الله لسدة الحكم وفيكم عين تطرف، لا عذر لكم عند الله إن استغاثت بكم مسلمة فلم تجيبوها وفيكم عين تطرف، لا عذر لكم عند الله إن تركتم إخوانكم في غزة محاصرين ولم تهبوا لنجدتهم وفيكم عين تطرف، لا عذر لكم عند الله إن لم ترجع الخلافة الإسلامية وفيكم عين تطرف، أعلموا أن «الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام ولا يناله إلا أفضلهم»، كما علمنا نبينا وقدوتنا إمام المجاهدين محمد صلى الله عليه وسلم.
يا شباب الأمة، أأعجبكم مشهد استشهاده؟ أتتمناها لنفسك؟ إذاً فاعلموا أن الشهادة ثمرة الجهاد والجهاد طريق حياة، نهايته نصر أو استشهاد، وإنه والله كما قال الشيخ المجاهد عبدالله عزام: «إن الطريق طويل، وأثناء السير على هذا الطريق الطويل يمل من يمل، ويسقط من يسقط، ويتراجع من يتراجع، وييأس من ييأس، وتبقى حفنة مؤمنة؛ تصبر لأمر ربها، وتصمد للأواء الطريق، ومشقة الجهاد، حتى إذا شاء الله؛ فتح على عباده، وهو خير الفاتحين، فاصبروا واثبتوا ينصركم الله؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران: 200)».
فهنيئاً لهذا الشهيد الساجد الفلسطيني، الذي جاهد وصمد ليلقى ربه ساجداً، فلم يرضَ فقط بالموت شهيداً والفوز بعطايا الله التي لا تحصى للشهيد، وإنما أراد أن يشكر خالقه على منحه جائزة الشهادة، وكان مقصد بني صهيون من تصوير اللحظات الأخيرة للشهيد كسر الروح فينا، فإذا به يزيد تثبيت أقدام أبطال فلسطين والأمة الإسلامية، نعم، استُشهِد البطل تيسير أبوطعيمة مُقدِمًا غير مُدبر، كانتْ سجدتُه في مماته كسجدته في حياته لقاءً بالله، شوقًا إلى رضوانه، رسَم بدمه الطاهر على جسده خارطة فلسطين، ليرسم بها خارطة الطريق لأجيال من بعد ليظل الشهيد الساجد رمزًا للتضحية والفداء والإيمان العميق، إذ تحمل قصته البسيطة قوة هائلة وتأثيراً يتخطى الزمان والمكان تعزز الأجيال الحالية والمستقبلية، ولسان حاله يقول:
فلستُ أُبالي حِينَ أُقتَلُ مُسلِماً على أيِّ جَنْبٍ كانَ في اللهِ مَصرَعي
ولستُ بمبدٍ للعدو تخشُّعاً ولا جزَعَاً إنّي إلى الله مَرجِعي