سجلت عملية «طوفان الأقصى»، التي نفذتها «كتائب القسام» عبقرية تخطيطية وهندسية بحروف من نور، فمنظومة المقاومة في غزة تطورت عبر ورش التصنيع المحلي، التي أهَّلت كتائب الجهاد لرفع قدراتها العسكرية، ويقف وراء هذا التطور عقول مؤمنة وظفت العلم في شرف الجهاد، ارتقى بعض أصحابها شهداء، وكان الوفاء من «كتائب القسام» أن أطلقت أسماءهم على أسلحتها المطورة، وعلى رأسهم المهندسان يحيى عياش، ومحمد الزواري.
ولد يحيى عياش في بلدة رافات بالضفة الغربية عام 1966م، وتخرج في جامعة بيرزيت بشهادة البكالوريوس في الهندسة الكهربائية عام 1993م، وانضم إلى حركة «حماس» في أواخر الثمانينيات، وأصبح مسؤولاً عن تصميم وتنفيذ عدة عمليات استشهادية ضد الاحتلال «الإسرائيلي» في التسعينيات؛ ما أدى إلى مقتل وجرح المئات من الجنود والمستوطنين «الإسرائيليين».
وخلال فترة تعليمه الجامعي، كان عياش مشغولاً بوسائل استخدام القوة في النضال لأجل القضية الفلسطينية، وقاده شغفه بالعلم واطلاعه المستمر على محتويات المكتبة الجامعية إلى بحث حول صناعة البارود، حيث أُعجِب بالأمر وتحمَّس له، ووجد في تحضير البارود من عناصره الأولية منفذاً للتغلب على شح الإمكانات العسكرية للمقاومة، ومن هذه المواد الأولية مثل الكبريت والسماد والفحم بدأ تكوين خلطته المتفجرة، وتطوير الدوائر الكهربائية اللازمة لصنع المتفجرات.
وهنا تحولت الانتفاضة الفلسطينية من المقاومة بالحجارة إلى نموذج السيارات المفخخة بجانب تجمُّعات «الإسرائيليين»، والعمليات الاستشهادية التي كان لها أبلغ الأثر في زعزعة معنويات مستوطني كيان الاحتلال، وتوالت العمليات القسامية تحت إشراف عياش، الذي بات المطلوب الأول للمخابرات «الإسرائيلية»، بل طاردته الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية أيضاً.
واستمر عمل عياش النضالي حتى عام 1996م عندما استشهد في انفجار هاتف مفخخ أرسلته مخابرات الاحتلال إلى أحد معاونيه، ولاحقاً أطلقت «القسام» اسمه على صاروخها بعيد المدى، الذي يصل إلى 250 كيلومتراً.
أما محمد الزواري، فقد كان مهندس طيران في «القسام»، ولد بمدينة صفاقس بتونس عام 1967م، وتخرج في المدرسة الوطنية للمهندسين بشهادة الدكتوراة في الهندسة الطيرانية عام 2001م، وعمل في مجال تصميم وتصنيع الطائرات المسيّرة، وأسس شركة خاصة بهذا المجال في تونس.
انضم الزواري إلى «حماس» في أوائل الألفية الجديدة، وأصبح مسؤولاً عن تطوير وتصنيع الطائرات المسيرة لـ«كتائب القسام»، وكان يستخدم معرفته العلمية والتقنية وخبرته العملية لتصميم وتنفيذ طائرات مسيرة قادرة على التجسس والتصوير والقصف والتشويش على الرادارات والاتصالات «الإسرائيلية»، وقام بتدريب وتأهيل المجاهدين الفلسطينيين على استخدام الطائرات المسيرة، ونقل المعدات والمواد اللازمة لها إلى قطاع غزة بطرق مخفية ومعقدة.
واستشهد الزواري في عام 2016م بطلقات نارية أطلقها عملاء لـ«الموساد» عندما كان في سيارته بمدينة صفاقس، وأعلنت «كتائب القسام» حينها عن تنفيذ عمليات ضد الاحتلال انتقاماً له.
رحل جسد الزواري، لكن علمه وجهاده لم يرحل، وسطع نجم الشهيد من جديد في العدوان «الإسرائيلي» على قطاع غزة، في مايو 2021م، بعد أن كشفت المقاومة الفلسطينية عن الدور الكبير الذي اضطلع به في تطوير المنظومة العسكرية لـ«كتائب القسام» جواً وبحراً، من خلال طائرة مسيّرة وغواصة ذاتية التحكم، وفي العدوان الأخير بعد عملية «طوفان الأقصى»، أطلقت «القسام» اسم الزواري على أحدث طائراتها المسيّرة.