تبدو مسألة إنهاء الحرب في غزة أمراً حتمياً مهما حاول العدو الصهيوني إطالة الحرب حتى يحقق أكبر مساحة من الانتقام والدمار يغطي به فشله في تحقيق أهدافه العسكرية والإستراتيجية في القطاع.
قريباً جداً سيبزغ الصبح وقد توقفت نيران الحرب بعد مقتل آلاف الأرواح البريئة (نحسبهم جميعاً من الشهداء)، ستشرق الشمس ذات صباح وقد توقف أزيز الطائرات وهدأت نيران المحرقة على قطاع ضيق مهدم تحطمت أبنيته ومدارسه ومشافيه وبنيته التحتية بصورة شبه كاملة، وسيسارع المحسنون من بلادنا وبلاد العالم كله في محاولة إعادة الإعمار وبناء ما تهدم حتى تصبح الأرض صالحة للحياة.
قوة الإيمان تساعد الإنسان على تحمل الابتلاءات والمصائب وترفع من صموده النفسي
لكن ماذا عن البشر الناجين من هول هذه الحرب أو هذه المحرقة؟ ماذا عن أطفال عايشوا الفزع والهلع وفقدوا أمهم أو أباهم أو الاثنين معاً، فقدوا إخوتهم ورفاق اللعب؟
ماذا عن شباب بترت أطرافهم وأصابهم العجز؟ ماذا عن نساء أرامل فقدن الدعم والمعيل وأصبحن في صدارة المشهد المؤلم؟ ثم ماذا عن هذه التي ضربها المخاض في الشارع؟ وتلك التي شقوا بطنها وهي في كامل وعيها حتى تنجو وينجو وليدها؟ وهذه التي مات طفلها الخديج الذي انتظرته سنوات طويلة؟ فلما أصابها الاكتئاب لم تجد من يمد لها يد العون؛ فالمصائب والابتلاءات تطول الجميع فمن يقدم الدعم؟ ومن يعيد إعمار النفوس التي امتلأت بالجروح والتصدعات كما يعاد إعمار المباني والطرق؟
الدعم والإيمان
من الحقائق المؤكدة أن قوة الإيمان تساعد الإنسان على تحمل المصائب والابتلاءات، وترفع من قوة صموده النفسي إلى درجات عالية تشبه المعجزات، ومقارنة بسيطة بين الهلع الذي أصاب صفوف العدو والثبات والقوة في صفوف المقاومة، والحمد والاسترجاع بين صفوف بقية أهالي غزة؛ تكشف أثر الإيمان في صناعة نفسية قوية صلبة قادرة على التعامل مع الصدمات الحادة، ولكن هذا لا ينفي أننا بشر خلقه الله سبحانه وتعالى بقدر محدود من الطاقة، وخلق له مجموعة من المشاعر والانفعالات لا يمكنه تجاوزها، فنبي الله يعقوب مع صبره واحتسابه وتسليمه آلمته مشاعر الفقد والغياب؛ (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) (يوسف: 84).
الذين بدوا متماسكين أثناء الحرب قد تبدأ لديهم أعراض «اضطراب ما بعد الصدمة»
وما جرى لأهل غزة (وهم ليسوا بأنبياء) لهو مريع ومفزع، ومن ثم فإن معاناتهم من التفاعل الحاد للكرب أو اضطراب ما بعد الصدمة أو القلق والاكتئاب أمر طبيعي بحكم بشريتهم لا يقلل من قوة إيمانهم وصمودهم، وحاجتهم للدعم والمساندة النفسية لا تقل عن حاجتهم للماء النظيف والغذاء الصحي والبيت الآمن.
الحقيقة أن دعم المصابين والمكلومين لا ينتظر حتى تتوقف الحرب، فهناك إسعافات نفسية أولية تقوم بها فرق الإنقاذ والمتطوعين فور وقوع إصابات، فمجرد الابتسامة الهادئة في وجه المصاب وطمأنته أنه بخير خطوة بالغة الأهمية لاستقراره النفسي.
وتزداد أهمية هذه الإسعافات النفسية الأولية مع الأطفال الذين يكونون بحاجة ماسة لمن يبث فيهم مشاعر الأمان، ويطمئنهم أن الأمور ستكون بخير، ويساعدهم على تجاوز مرحلة الصدمة.
ومن هنا بدت الأهمية البالغة لما يقوم به بعض الشباب من أنشطة للترفيه عن أطفال غزة في أماكن تجمعاتهم كالمدارس؛ حيث يلعبون ويرسمون ويتسابقون ويغنون ويقصون الحكايات، وهي أنشطة تقوم بدور يشبه التنفيس الانفعالي لدى هؤلاء الأطفال؛ فيخفف عنهم بعض الضغوط التي يعايشونها، ويساعد على التفريغ الانفعالي للحمولة النفسية الزائدة التي يتحملونها.
بعد انتهاء الحرب يجب إرسال فرق طبية نفسية متخصصة ومعالجين وتمريض نفسي
والحقيقة أن الأطفال وعلى الرغم من أن نموهم الانفعالي لم يصل حد النضج، فإن تفاعلهم غالباً ما يكون جيداً جداً، وما يتم عمله من أنشطة موجه لهم في أيام الحرب لا شك أن أثره سيتضح في الأيام التي تلي توقف الحرب.
الدعم المؤسسي
بمجرد توقف آلة الحرب الجبارة الساحقة لن يكون لعق الجراح سهلاً، ربما تكون صدمة الحرب الحادة قد زالت في ذلك الوقت، لكن الكثيرين سوف يعانون درجات متفاوتة مما يطلق عليه علماء النفس «اضطراب أو كرب ما بعد الصدمة».
وهؤلاء الذين بدوا على درجة كبيرة من التماسك أثناء الحرب قد تبدأ لديهم أعراض متأخرة تدل على وقوعهم في نطاق اضطراب ما بعد الصدمة، وهؤلاء بحاجة ماسة لدعم نفسي مؤسساتي منظم من مؤسسات الصحة.
دعم احترافي من اختصاصيين في الصحة النفسية، وتبدو الحاجة ماسة لدعم خارجي؛ لأن مؤسسات الصحة الفلسطينية خاصة في غزة وقع عليها ضرر كبير واستهداف متعمد، وتعرض قطاع كبير منها لما يمكن أن نطلق عليه الاحتراق النفسي، فأصبح الداعمون بحاجة للدعم حتى يستطيعوا القدرة على التقدم في الحياة وتقديم الدعم لمن هم بحاجة إليه.
الدعم الشعبي سيكون له دور حاسم في المساعدة بالإضافة إلى أدوار علماء الدين
وتبدو خدمة الخط الساخن للدعم النفسي لأهالي غزة التي تم دمجها مع المنصة الإلكترونية للصحة النفسية التي تقدمها وزارة الصحة المصرية خطوة جيدة تتضافر مع جهود الهلال الأحمر الذي يقدم الدعم النفسي المباشر للمصابين وأسرهم منذ لحظة استقبالهم، إلا أنها بالتأكيد ليست كافية، فعدد من يحتاج إلى الدعم والمساندة النفسية في الداخل الفلسطيني هائل، ومن ثم كانت الحاجة ماسة بعد انتهاء الحرب لإرسال فرق طبية نفسية متخصصة، تتضمن أطباء نفسيين ومعالجين وتمريضاً نفسياً جنباً إلى جنب مع الفرق الطبية الأخرى.
وعلى الرغم من الحاجة الملحة لدور فاعل لمؤسسات الصحة في بلادنا العربية لتقديم الدعم النفسي المتخصص لأهل غزة بعد توقف الحرب، فإن الدعم الشعبي سيكون له دور حاسم في الدعم والمساعدة، فصدمة الحرب التي طالت الجميع تستطيع الغالبية العظمى التعافي منها عبر شبكات الدعم الاجتماعي، وعبر كلمات علماء الدين الذين يقدمون معنى أعمق للصدمة، وعبر المجموعات الإلكترونية للدعم النفسي والتفريغ الانفعالي.
ويمكن للجلسات النفسية الفردية «أون لاين» تحقيق نتائج ملموسة كذلك، فلا ينبغي الاستهانة بالجهود الفردية مهما قلت، فقد تساهم في تقليل عدد الضحايا للحد الأدنى وتقلل من الاستحقاقات الواقعة على عاتق مؤسسات الصحة النفسية.