تعد مبادرة دولة جنوب أفريقيا بتقديم دعوى ضد الكيان المحتل مؤشراً على أن رياح الدور الحضاري المستقبلي تهب على القارة الأفريقية التي طالما عانت من أصناف الظلم، حيث مثلت تاريخياً مركزاً لتجارة العبيد فيما يعرف بـ«التجارة الثلاثية» بين أوروبا وأفريقيا والأمريكتين، والذي أطلق عليه البعض «الهولوكوست الأفريقي»، كما شهدت القارة السمراء أعتى أنواع الاستعمار واستغلال ثرواتها الطبيعية والبشرية.
لكنها اليوم تنتفض ضد الهيمنة والظلم، وقامت بعض دولها بطرد القوات الفرنسية، وانعقدت في أوغندا القمة الـ19 لحركة عدم الانحياز والقمة الثالثة لمجموعة الـ77 + الصين، وفي ذلك إشارة إلى الأهمية الإستراتيجية للقارة الأفريقية.
كما أن هناك حركة وعي أفريقية للحفاظ على مقدرات القارة، إذ لديها ما يؤهلها لأن تصبح –رغم العقبات الراهنة- «سلة غذاء العالم»، ولأن تقود قاطرة الاقتصاد العالمي في مستقبل غير بعيد، بحسب توقعات وتحليلات خبراء دوليين.
جنوب أفريقيا.. وإرث كارثة التمييز العنصري
علاوة على ذلك، لدى القارة الأفريقية مخزون من الإرث النضالي ضد كل أنواع الظلم من الاستبداد السياسي إلى الهيمنة الاستعمارية، وليس من الصدف أن ترفع دولة جنوب أفريقيا دعوى بالإبادة الجماعية والتطهير العرقي للشعب الفلسطيني.
فقد عرف تاريخ جنوب أفريقيا حقبة من الظلم في أبشع أنواعه، وارتبط اسم هذا البلد بنظام التمييز العنصري (أبارتيد) الذي جثم على صدور أبناء الشعب من السود لمجرد الاختلاف في اللون والبشرة، والاختلاف العرقي، على مدى 43 عاماً من عام 1948 إلى 1991، ولم يتم التخلص منه إلا بعد مقاومة شديدة وتضحيات جسام، وأصبح اسم نيلسون مانديلا أيقونة المقاومة ضد «أبارتيد» علَمًا بارزاً، وبصم تاريخ بلاده بالإصرار على الحق والصمود بالرغم من كل التضحيات، ولا يمكن أن تمحى من ذاكرة أجيال كاملة كيف أن هذا الإصرار أثمر حرية وانعتاقاً من أعتى أنواع التمييز والظلم بسبب الاختلاف في العرق واللون.
ولذا، لا نستغرب أن جنوب أفريقيا هذه الدولة التي كانت من بين أولى الدول التي اعترفت بالكيان المحتل عام 1948م جاءت في القرن الحادي والعشرين لتقوم برفع دعوى ضد هذا الكيان بجريمة الإبادة الجماعية في محكمة العدل الدولية، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن روح المقاومة للتمييز العنصري بقيت حية في هذا البلد الذي عانى من هذا الظلم، وأن الجروح التي عانى منها السود في جنوب أفريقيا لم تندمل بعد، وما حصل في فلسطين وغزة أعاد تلك الجروح وتلك المظالم إلى السطح، ويمكن اعتبار شعب جنوب أفريقيا من أكثر الشعوب شعوراً بعمق مأساة الشعب الفلسطيني لوجود قواسم مشتركة بين الشعبين.
وحتى إن شكك البعض في مصداقية الدعوى بحجة أنها جاءت متأخرة وربما مقصودة لكي يتذرع الكيان المحتل بوقف الحرب بحجة قرار المحكمة إن تم، وبالتالي يفلت من المحاسبة، فإن رفع دعوى في حد ذاته في ظل ضغوط المنظومة الصهيوأمريكية انتصار للحق الفلسطيني.
وباعتراف الملاحظين، فإن جنوب أفريقيا أبلت البلاء الحسن في هذه المرافعة، وقدمت ملفاً موثقاً في 48 صفحة عن أنواع الظلم التي يعيشها الشعب الفلسطيني ليس في الأشهر الأخيرة فقط، بل منذ تأسيس الكيان المحتل في أربعينيات القرن العشرين.
ولعل اضطرار الكيان للنزول بثقله القانوني للدفاع عن نفسه دليل على الشعور بأن دولة جنوب أفريقيا جادة في دعواها، ولديها قرائن تدين هذا الكيان، وهذه سابقة في تاريخ العلاقات الدولية والقانون الدولي أن يقف الكيان المحتل متهماً بالإبادة الجماعية.
الضمير العالمي يتجاوز شلل الإرادة العربية
إن ما قامت به جنوب أفريقيا يندرج في حركة الوعي والتضامن مع حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، ورفض هيمنة الصهيونية باسم الحق الإلهي في أرض الميعاد، كما يشير إلى بداية تحول في موازين القوى العالمية وتراجع الصهيونية الأمريكية وبداية تحرر الشعوب من هذا الكابوس الذي أدخل المنظومة الدولية في دوامة معارك مع قيم إنسانية مشتركة، مثل قيمة الحرية وقيمة الكرامة للفرد وللمجموعة.
ولعل سلسلة الاحتجاجات والمظاهرات التي لم تتوقف من اليابان إلى الأرجنتين مروراً بعدة دول أوروبية مثل اليونان وهولندا وبلجيكا والدنمارك وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا وإسبانيا وغيرها.. كلها مؤشرات على أن الكفة بدأت ترجح لصالح صاحب الحق الحقيقي في هذه الأرض المباركة.
إلا أن هذه الحركة وهذا التحول يتمان في ظل شلل الإرادة العربية بحكم مسار التطبيع الطويل الذي تدحرجت إليه عدة أنظمة عربية، مما أفقد العنصر العربي القدرة على الفعل والتغيير، ودخلت القضية الفلسطينية وقضية الأقصى المحتل في طي النسيان إلا في بعض التصريحات الموسمية وبعض الشعارات للاستهلاك الداخلي، وبات الموقف العام لمعظم الدول العربية والإسلامية يقتصر على التعاطف الإعلامي.
وفي الواقع، فإن العالم العربي لم يتعاف بعد من تداعيات سقوط الخلافة العثمانية وتشتت الصفوف والانقسامات وغياب قيمة الشورى التي حلت محلها في أغلب الحالات العقلية الفردية؛ وبالتالي فإن غضب الشعب العربي لما يحصل في فلسطين من إبادة جماعية لم يتحول إلى قوة فاعلة ومؤثرة.
أمام هذا العجز والشلل العربيين، تحركت الضمائر الحرة على مستوى العالم التي أعادت قيمة حرية الشعوب في تقرير مصيرها، وأعطت زخماً جديداً وبُعداً عالمياً إنسانياً للقضية الفلسطينية بالنظر إلى خصوصية هذه الأرض المباركة بمقدساتها وتاريخها وموقعها الإستراتيجي في قلب الشرق الأوسط.
وفي الأخير، فإن دعوى جنوب أفريقيا في محكمة لاهاي فيها إشارة إلى حقيقة أو حتمية تاريخية؛ وهي أنه ما ضاع حق وراءه طالب، وأن الصمود ثمنه باهظ لكن عاقبته النصر، وبالتالي فإن كابوس الصهيونية سينجلي كما انجلى كابوس التمييز العنصري.