أوجب الشرع الشريف النصرة على المسلم للمسلم، وهذا المعنى فيه نصوص من القرآن الكريم والسُّنة النبوية تمثل مدونة متكاملة تكشف عن عظمة الشرع الشريف في التضامن والتداعي والتكافل بما يجعل المجتمع المسلم يداً واحدة، وقوة واحدة، وجسداً واحداً، بما لا نكاد نجده في مجتمعات أخرى، وهو من معالم المدينة الفاضلة في الإسلام.
النصوص الشرعية توجب النصرة:
حسبنا في ذلك ما ورد في القرآن الكريم من قوله تعالى: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء: 92)، وقوله تعالى: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) (المؤمنون: 52)، وقوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الحجرات: 10)، قال العلًّامة عبدالرحمن السعدي في تفسيرها: «هذا عقد، عقده الله بين المؤمنين، أنه إذا وجد من أي شخص كان، في مشرق الأرض ومغربها، الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، فإنه أخ للمؤمنين، أخوّة توجب أن يحب له المؤمنون، ما يحبون لأنفسهم، ويكرهون له، ما يكرهون لأنفسهم»(1).
وقال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: «المُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كالْبُنْيانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً وَشَبَّكَ بيْنَ أَصابِعِهِ»(2)، فانظر إلى هذه الصورة القوية التي شبه فيها النبي صلى الله عليه وسلم علاقة المسلم بأخيه المسلم كالبنيان، وهذا البنيان يشد بعضه بعضاً تقوية ودعماً، «وشبك بين أصابعه»؛ قوة في العلاقة، وصلابة في الإخاء، ومتانة في الرابطة، ورسوخاً في الآصرة.
لفلسطين مزية مقاصدية فهي بلد محتل حيث لا يوجد أمن اجتماعي ولا عدل إنساني
وقال عليه الصلاة والسلام: «لا تَحاسَدُوا، ولا تَناجَشُوا، ولا تَباغَضُوا، ولا تَدابَرُوا، ولا يَبِعْ بَعْضُكُمْ على بَيْعِ بَعْضٍ، وكُونُوا عِبادَ اللهِ إخْوانًا. المُسْلِمُ أخُو المُسْلِمِ، لا يَظْلِمُهُ، ولا يَخْذُلُهُ، ولا يَحْقِرُهُ، التَّقْوى هاهُنا، ويُشِيرُ إلى صَدْرِهِ ثَلاثَ مَرّاتٍ، بحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أنْ يَحْقِرَ أخاهُ المُسْلِمَ، كُلُّ المُسْلِمِ على المُسْلِمِ حَرامٌ؛ دَمُهُ، ومالُهُ، وعِرْضُهُ»(3).
وعن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «انْصُرْ أَخاكَ ظالِمًا أَوْ مَظْلُوماً»، قالوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، هذا نَنْصُرُهُ مَظْلُوماً، فَكيفَ نَنْصُرُهُ ظالِماً؟ قالَ: «تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ»(4)، وهذا الحديث يوسع معنى النصرة، فالنصرة ليست لرفع الظلم عن المظلوم فقط، وإنما لكف الظالم عن ظلمه كذلك، وهذا معنى شريف نبيل.
الامتثال من أعظم المقاصد:
استجابة لهذه النصوص الكثيرة من القرآن الكريم والسُّنة النبوية، فإن الامتثال لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، والعمل بمقتضى ما قرراه يعد من أعظم مقاصد الشرع الشريف.
والامتثال هنا لا يكون مجرد «روتين» أو القيام به بشكل آلي، كمن يحمل حملاً ثقيلاً يريد أن يتخلص منه، وإنما يكون صادراً عن قلب مليء بالثقة المطلقة في أن ما يقوله الله تعالى هو الحق المطلق، والعدل المحض، والرحمة الكاملة، والمصلحة الشاملة، وكذلك فيما يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إذ الشريعة، كما قرر العلَّامة المحقق ابن قيم الجوزية، في قوله الشهير: «مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد، في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها»(5).
ما تقوم به حركات الجهاد على أرض فلسطين جهاد مبرور عظيم المعنى كبير الأثر
وهذا القول ينتقل بالعبد من مقام الامتثال فقط، إلى مقام الامتثال مع تام الرضا والتسليم، وكامل الفرح والحب، بما يمتثله من تكليفات عن حكيم خبير ورؤوف رحيم.
فلسطين لها خصوصية في المقاصد:
من الواجب بيان أن لفلسطين مزية مقاصدية، وهي أنها بلد محتل، ومن المعلوم تاريخياً وواقعياً أن أي محتل يدمر مقاصد الشريعة تدميراً، فلا يوجد أمن اجتماعي، ولا عدل إنساني، ولا كرامة آدمية، ولا حرية للإنسان، ولا عيش كريم، وهذه من المقاصد العالية التي جاءت بها كل شريعة.
وإذا كان الأصوليون قد قرروا أن كليات المقاصد الضرورية خمس: «الدين والنفس والمال والنسل والعقل»، وزاد بعضهم «العرض»؛ فإن الدين يتعرض –في ظل الاحتلال- لحملات تشويه وتحريف، كما يضيق على الناس في شعائرهم، والنفس تتعرض للقتل والأسر والجراح، والمال يتعرض للنهب والسرقة والإتلاف، والنسل يتعرض للضعف بفعل القتل والأسر، والعقل يتعرض للتزييف وقلب الحقائق، والعرض يتعرض للانتهاك.
وهنا يأتي دور المقاومة وحركة الجهاد ضد هذا المحتل لإجلائه وتحرير الأرض، والعمل على استرداد واستبقاء مقاصد الشريعة قوية عزيزة؛ فإن إقامة مقاصد الشرع ومصالح الناس من أعز ما تقوم به حركة جهاد الدفع ضد أي محتل غاصب، ومن هنا فإن ما تقوم به حركات الجهاد على أرض فلسطين هو جهاد مبرور، عظيم المعنى، كبير الأثر، وحسبه أنه يجاهد من أجل إقامة المقاصد الشرعية وتحقيق المصالح الإنسانية.
فلسطين لها خصوصية في النصرة:
إذا كانت فلسطين لها خصوصية في المقاصد، وهذا شأن أي بلد محتل احتلالاً صريحاً سواء أكان بالأصالة أم بالوكالة؛ فإن لفلسطين خصوصية في النصرة؛ إذ إنها ليست مجرد وطن محتل، ولكنه وطن يحتضن مقدسات المسلمين، وهي أرض وقف ليست ملكاً لأهلها فقط، ولكنها ملك للمسلمين كافة، ومن ثم فإن واجب النصرة يستغرق المسلمين جميعاً، كل بما يستطيع حتى يتحقق النصر الكامل والإجلاء الشامل.
نُصرة فلسطين ألزم وجوباً لما فيها من مقدسات تستوجب النفرة وحمايتها من التهويد
وإذا كان واجب النصرة مستحقاً لكل مسلم مظلوم يسام الخسف من عدو غاصب لا يرقب في مؤمن إلًّا ولا ذمة، قتل الأنبياء وسفك الدماء وزور الوحي الإلهي؛ فإن واجب النصرة هنا أكثر تأكيداً وألزم وجوباً؛ لما في نصرتها من قيام بالواجب الأصلي في النصرة، ولما فيها من مقدسات تستوجب النفرة لنصرتها وحمايتها من التدنيس والتهويد.
النصرة الآن آكد وأوجب:
نتحدث هنا عن واجب النصرة العامة، وهي حق للمسلم على المسلم، ثم نتحدث عما هو أوجب وآكد، وهو أن فلسطين حالة خاصة لما فيها من مقدسات للمسلمين، ثم نتحدث عما هو أخص وأكثر وجوباً وحتماً، وهو أن فلسطين اليوم تمر بظرف خاص، ربما لم تمر به على مدى قرن من الزمان؛ حيث ما أسماه قائد المقاومة محمد الضيف بـ«طوفان الأقصى»، هذه المعركة الفاصلة في تاريخ القضية التي مثلت نقلة كبيرة في الصراع والتدافع، وفي متوالية الاحتلال والتحرير، كما جسدت المعاني الإيمانية وأكدت عقدية الصراع والتدافع، وكشفت العالم على حقيقته، كما جعلت العالم الأمريكي والأوروبي في العراء؛ قيمياً وأخلاقياً.
إن هذه المعركة خلَّفت من الشهداء والأرامل واليتامى والجراحات ما يستوجب النصرة المضاعفة، والإسناد المركب الشامل، كما أن هذه المعركة يجب أن ننتصر فيها؛ إذ النصر فيها له ما بعده، كما أن الهزيمة فيها –لا قدر الله– لها ما بعدها.
ونؤكد هنا أن مصارف الزكاة الثمانية التي وردت في قوله تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (التوبة: 60) موجودة كلها في فلسطين، وندعو إلى تأمل المصارف الثمانية الواردة في الآية الكريمة، ثم تأمل واقع غزة وفلسطين نجد مصداق ما نقول، وهو ما يؤكد القيام بالواجب المالي المستحق، ولا نقول المساعدات أو المعونات؛ فهو واجب شرعي تتحقق به مقاصد الشريعة في تحرير الأرض وحفظ العرض، وحراسة مقدسات المسلمين.
____________________________
(1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (800)، تحقيق: عبدالرحمن بن معلا اللويحق، مؤسسة الرسالة. الطبعة الأولى، 1420هـ/ 2000م.
(2) صحيح البخاري (2446).
(3) أخرجه البخاري (6064) مختصراً، ومسلم (2564).
(4) صحيح البخاري (2444).
(5) إعلام الموقعين عن رب العالمين (3/ 11)، تحقيق: محمد عبدالسلام إبراهيم، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1411هـ/ 1991م.