لا يمكن لأي مراقب يتابع الشأن العربي، أو حتى مواطن غير متخصص أن يغيب عنه ما يحدث في أمتنا من جنوبها إلى شمالها، ومن غربها إلى شرقها، خاصة أن العدو الذي يحدد مصيرها يبدو أنه أراد أن يحقق مقولة نبي الأمة صلى الله عليه وسلم: «مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمة».
وأمتنا الآن تشتكي منها أعضاء كثر، في اليمن، وليبيا، والسودان، وفلسطين، ولكن ضربتها الموجعة الأكثر إيلاماً، هي تلك التي تجمع بين السودان صاحب أكبر مخزون للغذاء في الشرق الأوسط وأفريقيا، وغزة أصغر منطقة في العالم تحتضن بين جنباتها كل هذا البشر، حتى أصبحت الأكثر ازدحاماً بالسكان في العالم.
ويبدو أن الموت وعمليات الإبادة الجماعية والجرائم ضد القانون وضد الإنسانية، التي تقع في جغرافيا السودان وغزة، تصر أيضاً على وحدة مصير هذه الأمة، فلي عذاباتها، وشقائها.
عدو واحد
في السودان، رفعوا شعار محاربة الإرهاب بزعم أن التيار الإسلامي الذي كان يحكم البلاد بقيادة عمر البشير تيار إرهابي يجب القضاء عليه والتخلص منه، وحشدوا له كل الفاعلين من واشنطن ولندن وباريس وبرلين، ودول عربية وإقليمية، كي يقوموا بتصفية الدولة السودانية، واجتثاث كل من له علاقة ببناء هذه الدولة، بغرض سرقة ثرواتها، والاستيلاء على سيادتها وقرارها.
وقد استعان هذا العدو الذي يدير أزمة السودان الآن بالأمم المتحدة ومبعوثها السابق فولكر بريتس، وبالتشكيل الشيوعي العلماني الذي اتخذ أشكالًا متعددة، ومسميات من «قوى الحرية والتغيير» إلى ما يسمى بـ«تقدم» الآن، ومن «الدعم السريع» بزعامة محمد حمدان دقلو الملقب بـ«حميدتي»، إلى ما يسمى بـ«التيار المدني» بزعامة رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك.
وقد نجح هذا العدو في تقسيم البلاد على أرض الواقع عبر دعم قوات التمرد بزعامة حميدتي، ونجح في الاستيلاء على العاصمة الخرطوم، وعلى أربع من ولايات دارفور الخمس، ومؤخراً على عاصمة البلاد الاقتصادية؛ ولاية الجزيرة؛ وهو ما جعل السودان بشكل واقعي وحقيقي بين خيارين؛ إما أن يستسلم الجيش ويسلم كل البلاد لـ«الدعم السريع»، وقوى التمرد، الذين يمثلون قوى الاستعمار الحديث، ويحققون أهدافهم الكاملة في خطة علمنة البلاد الإسلامية، والاستيلاء على ثرواتها، أو يتم القضاء على مدن السودان وشعب السودان رجلاً رجلاً، وشبراً شبراً تحت قصف الأسلحة الحديثة التي تنهال كل يوم على رؤوس السودانيين، وتطاردهم من مدنهم وبيوتهم، وتحولهم إلى مجموعات من النازحين واللاجئين في دول الجوار.
وكل ما يحدث من قتل في مدن السودان، يتشابه مع ما يحدث من قتل وتدمير مع ما يحدث في قطاع غزة في شماله وجنوبه وشرقه وغربه، وتحت نفس المسميات، وهي محاربة الإرهاب في غزة، والغريب أن هناك من ينساق وراء عمليات القتل والذبح في غزة بحجة أن ما يحدث هو للحرب على الإرهاب، ونفس الشعار يتم سحبه على اليمن، وسيتم سحبه على كل دولة عربية أو إسلامية تعارض قوى الاستعمار الجديد، وتحاول أن تستقل بقرارها، وتحافظ على سيادتها.
تهجير مشترك
في غزة، الهدف المعلن تهجير سكان البلاد الفلسطينيين من أرضهم، التي سكنوها منذ ما قبل التاريخ على الشتات، فخطة التهجير قامت على تدمير القطاع وإحالته إلى خراب غير صالح للسكنة أو الإقامة، بل إنه مكان للأمراض والأوبئة، بعد أن ألقي فيه آلاف الأطنان من الأسلحة والذخائر المحرمة دولياً، التي حولت التربة إلى مكان آمن للأمراض والأوبئة، وطارد وقاتل للإنسان، فوضعت إنسان غزة بين خيارين؛ إما أن يهجر أرضه، ويتركها، ولا يعود إليها إلى الأبد، أو أن يبقى بها ويموت بالأمراض والأوبئة التي لا يمكن علاجه منها، وهو ما يحدث في السودان تقريباً، حيث تقوم قوات «الدعم السريع» بطرد السكان الأصليين إلى مصر، وكينيا، وإثيوبيا، وإريتريا، وتشاد، وجنوب السودان، وتستبدل بهم مجموعات تنتمي إلى دول أخرى من تشاد، وجمهورية أفريقيا الوسطى، والنيجر، ومن دول أفريقية أخرى يحتلون بيوت الشعب السوداني في العاصمة، والمدن السودانية الأخرى، يزرعون أرضهم، وينهبون ثرواتهم.
وقد ذهبت كل آمال وطموحات الشعب السوداني إلى أيدي اللصوص، والنهابة، الذين جاؤوا على سياراتهم ذات الدفع الرباعي المحملة بالمدافع والصواريخ، ودخلوا في الشوارع، ودمروا البيوت، والمدن، واستولوا على ما تبقى منها، بعد أن هرب الناس باحثين عن الحياة في دول أخرى.
إذاً، التهجير من غزة إلى الخرطوم، والجزيرة، ودارفور، خطة معلنة، ولا تغفلها عين، وربما تشير إلى أن هناك مخططاً أكبر وهو إبادة الجنس العربي كله، باعتباره الحلقة الأعظم في تاريخ هذه الأمة التي يثير وجودها الخوف والرعب من عودتها إلى سيرتها الأولى حيث الحضارة والتقدم ومواجهة الظلم والطغيان.
سقوط الأقنعة
وكما يقولون: «إن في بطن كل شر خيراً»، فإن أعظم ما تستفيد منه الأمة الآن أن أبطال المقاومة الإسلامية في غزة قد أسقطوا الأقنعة عن حضارة الغرب التي كانت تلتحف بإنسانية مصنوعة، وتدعي احترامها للإنسان وحقه في الحياة، بل إنها تبالغ بأنها تحمي حقوق الحيوان، وتحافظ على البيئة، وكانوا يقدمون لنا صوراً وردية عن جنانهم في الأرض حتى ركب شبابنا البحر غير مبالٍ بالغرق حلماً بدخول جنتهم التي يملؤون بها شاشات الفضائيات، وأوراق الصحف، والكل من عندنا يحلم أن يعيش في واحة الحرية والإنسانية، ويتشرب قلبه وروحه ونفسه متعة الإنسان بالعدل والأخوة والمساواة.. كل هذا سقط مع أطفال غزة الذين سقطوا تحت جنازير الدبابات «الإسرائيلية»، والذين تفحموا بصواريخ الطائرات الأمريكية، والذين تاهت صرخاتهم عن مسامع دعاة الحرية والإنسانية في عواصم الحضارة الغربية.
سقطت إذاً الأقنعة، ولم تعد لها أرضًا عندنا، في الحقيقة الموجعة والمؤلمة لا يرون في شعوبنًا بشرًا تستحق الحياة، ولكن كما قال العدو الصهيوني: «مجرد حيوانات بشرية تستحق الموت والفناء»، ولكن المؤسف أنهم وجدوا من بين أبناء شعبنا السوداني من يحمل رايتهم، ويقتنع بأفكارهم، ويقوم بدهس أشقائهم تحت عجلات أسلحتهم نيابة عنهم!