«المقاوم» أو «المجاهد»، اسم يُطلق على كل من حمل السلاح لقتال العدوّ؛ دفاعًا عن دينه أو وطنه، وهو إنسان يعيش حياة مهددة في كل حين؛ فإن لم يمت في معركة تعرّض للإصابة، وإن نجا من كليهما عاش قلقًا غير آمن، يتوقع صيحة الحرب في كل لحظة، مرابطًا على ثغر، أو مختبئًا في نفق، أو متنقلًا بين البلدان، أو مراوحًا بين السهول والجبال.. ورغم شرف الجهاد وعزّ المجاهد وأنه أوْلى بالمصاهرة من غيره؛ فإن هناك صعوبات وتحديات تقف في طريق زواجه من العائلات، التي يرفض كثيرٌ منها تزويج بناتهم من «مجاهد»؛ خوفًا من مستقبله المحفوف بالأخطار، وحياته غير المستقرة اجتماعيًّا، كما يصرّح بعضهم.
قضية قديمة حديثة
كثيرًا ما طُرحت قضية «الزواج من مقاوم» في العقدين الماضيين في أرض الرباط غزة بعد التحاق كثير من شبابها بقوى المقاومة، وكان السؤال المطروح على الفتيات: هل تقبلين بالزواج من «قسّامي» أو غيره من المجاهدين؟ وقد شهدت المناقشات تأييدًا ومعارضة، تداخل فيها الشرع مع العُرف، والواقع مع الخيال، وكانت الحربان على القطاع في عامي 2014 و2021م دافعًا لإعادة طرح السؤال ومناقشته مرة بعد مرة.. ثم جاءت «طوفان الأقصى» لتجدد الطرح والمناقشة، في ظلّ تطورات الحرب الخطيرة، وزيادة الأعباء على المقاومين، وقد خضع الشعب الغزِّي كله –قسرًا- لحالة الدفاع العام والتترس خلف المقاومة؛ ما غيّر الكثير من المفاهيم، والتوجهات والرؤى.
مؤيدون للقضية
للقضية الآن مؤيدون كُثر يرون الأفضلية لبناتهم في الزواج من مقاوم، ويهيئون بناتهم لهذا الأمر؛ لقناعتهم بأصالته وشرف مهمته، معتبرين المجاهد وليًّا من أولياء الله الصالحين، وأن من تتزوجه تشاركه الأجر والمثوبة، وهي في رباط ما دام يحيا حياة الجهاد، بل هناك من يجزم بوجود خلل عقدي لدى من يرفضون المجاهد زوجًا لبناتهم؛ فهو إن مات –والأعمار بيد الله- حملت لقب «زوجة شهيد» ونالت من ثمّ شفاعته، وإن بقي لم تُعدم نيْل السؤدد والشرف، ولا شك أن المجاهد خيرٌ وأحبُّ إلى الله من القاعد، ولا يفهم ذلك من الفتيات إلا ذوات الدين اللاتي يتحمّلن مسؤولياتهنّ؛ فهي تشارك الرجل في القيام بالواجب تجاه دينها ووطنها، بل تجد في الصبر على لأواء هذا الطريق ومشاقه وما يقع من مصائب وتضحيات لذة لا تعدلها لذة أخرى، فضلًا عما ينتظرها من أجر وثواب.
صعوبات وتحديات
يتبنى قسمٌ آخر من الآباء موقف معارضة زواج بناتهم من مقاومين؛ خوفًا من تحول بناتهم إلى أرامل، وعلى أقل تقدير يعتبرون زواجهن من مجاهدين زواجًا منقوصًا؛ إذ تفتقد الزوجة زوجها لأشهر، يغادرها إلى الجهاد.. وإنّ أخشى ما يخشاه الأب هو ترمّل ابنته؛ إذ لا يضمن زواجها مرة أخرى بعد مقتل زوجها، فمن يقوم بواجب تربية الأبناء ورعاية الأسرة؟ وإذا قررت الزواج من بعده فمن تتزوج؟ سيكون حظها في الاختيار محدودًا بلا شك، وربما تعرّضت في زيجتها الجديدة لمتاعب جمة، خصوصًا إذا كانت زوجة ثانية، في مجتمع لا تتقبل نساؤه هذه الفكرة إلّا من رحم ربي.. في أحيانٍ كثيرة تتمنى الفتاة الزواج من مجاهد، لكن يبقى دور الأهل، وهو الأساس، عقبة أمام هذه الأمنية، رافضين هذا الشاب أو ذاك، والمعروفين باستقامتهم والتزامهم وطهرهم؛ خشية تشرّد ابنتهم إذا وقع له أي مكروه، وهو وارد بدرجة كبيرة، فهناك الكثير من الأرامل، وبينهنّ من لم يمر على زواجها سنة واحدة، بل شهر واحد، كما حدث لـ«آ. ن» التي تقف الآن ضد الفكرة بقولها: «لقد تألمتُ كثيرًا، فالفراق صعب جدًّا، ولك أن تتخيل عروسًا تستقبل خبر زوجها ولم يمر على زواجهما شهر، أنا ما زلت أقدّر المقاومين وأحني لهم رأسي، لكن من واقع تجربتي لا أؤيد الزواج من مقاوم».
رأي الشرع
ينحاز الشرع في هذه القضية إلى رأي المؤيدين لزواج الفتاة من مقاوم؛ فمن يعزف عن تزويج المجاهد فكأنما يسيء الظن بالله، فالآجال كلها بيده، وهو مقدرُ الليل والنهار، وإن الدخول في القتال وتقدم الصفوف لا ينقص في العمر، كما أن البقاء في البيوت لا يزيده، وقد أخبر الله تعالى عمن يظن هذا الظن بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (آل عمران: 156).. وإذا كان لا ينبغي للمسلمة ألّا تتزوج إلا ممن يُرضى دينُه وخُلُقُه؛ فإن المقاوم هو أوْلى بالتزوّج بها من غيره؛ فإن الزواج منه شرف وعزّ، كيف لا والجهاد من أعظم أبواب الخير، وهو ذروة سنام الإسلام، وأهله من خيرة عباد الله، ومن حزبه المفلحين.
وإذا كانت ثمة توصيات في هذا الشأن؛ فيجب: التوعية المجتمعية بهذه المفاهيم، وبذل الإصلاح الشامل فيما يتعلق بجوانب المشكلة، فتصير –من ثمَّ- على قوى المقاومة واجبات وفروض تكافلية إذا ما نتجت تداعيات عقب الزواج، كما على الأهل تفهّم الظرف العام الذي يفرض على الجميع التعاضد والتساند لمواجهة العدو، وعلى المجتمع ككل توضيح المفاهيم، وتبيين المقاصد، وتغليب الشرع على العُرف، والسعي لأن يكون المجتمع وحدة واحدة، كتلة متجانسة، بعيدًا عن الاختيارات الخاصة والرغبات الشخصية الضيقة.