في أرجاء مكة، ترددت أصداء دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، وانتفض أصحاب الفِطَر السويَّـة المستكنَّة بين الجوانح يُسلمون قيادهم لله عز وجل، ويبايعون محمداً صلى الله عليه وسلم، وبادرت أم كلثوم بنت عقبة تُـسلم لله عزَّ وجلَّ.
وكرَّت الأيام بحلوها النادر ومرَّها الكاثر، وهاجر الصحب الكرام وتبعهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مخلِّفين وراءهم الأموال والديار، وسفه قريش وخرق ساداتها، وبعض المسلمين الذين حال بين كل منهم والهجرة حائل لا سلطان له عليه، ومانع عجز عن تخطِّـيه.
وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط واحدة ممن تخلفوا عن الهجرة رغم رغبتها الجياشة، وميلها الذي يجنح بنفسها كلها إلى هناك، حيث منعها أبوها عقبة بن أبي معيط، وأخواها الوليد، وعمارة، ابنا عقبة، وكي يكتمل بيان شخصية أم كلثوم، وقدر بذلها (النفسي قبل المادي) من أجل استقرارها تحت راية النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، لا بد من التعرض سريعاً لخبر أبيها مع النبي صلى الله عليه وسلم.
فذات يوم، خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة وقد اهتزت أشواقه إليها، وكان بعض سادة قريش جلوساً بجوارها، ووقف صلى الله عليه وسلم بين يدي ربه مشتركاً معهم في المكان مفارقاً لهم في العقيدة، ليس لتربصهم به سلطاناً على أمنه الغلاب ولا لغائلتهم(1) حسباناً في نفسه، وهكذا وجد المشركون أنفسهم يخسرون هيبتهم أمام رجل وحيد أعزل يمارس في هدوء وكرامة حق عبادته لرب يرفضونه في تعنت وعناد، فقال أبو جهل: أيكم يقوم إلى سلا(2) جزور بني فلان، فيأخذه فيضعه على كتفي محمد إذا سجد؟
وتلقف أشقى الناس عقبة بن أبي معيط الرغبة الشيطانية في مباهاة، وفاجأ النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد بوضع سلا الجذور فوق كتفيه.
صورة تبعث الأسى في النفوس، وتُطلق عبث الألم في الأفئدة، صورة تُفزِع وستبقى تنبعث من أعماق النفس إلى الذهن من حين إلى حين.
وصاح صائح: يا فاطمة، أدركي أباكِ.
كانت فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم ما زالت تدرج في العقد الأول من عمرها أو ودعته بقليل، واتسعت خطواتها تنهب الطريق إلى الكعبة نهباً سريعاً، وتطوف برأسها دوامة من الخواطر المفزعة، وأرمض(3) قلبها ما نزل بأبيها وأدمته صورته وسلا الجزور فوق كتفيه وهو ساجد لا يريم(4)، وذووا الطيش والنزق الذين ذهبوا بعزة قريش وشرفها من حوله يضجون بالضحك، ويتمايلون على بعضهم بعضاً.
وسابقت فاطمة رضي الله عنها الريح لترفع سلا الجزور من فوق كتفي أبيها، ثم استقبلت القوم تدعو عليهم وتسبّهم، وطمح قلبه الشريف صلى الله عليه وسلم إلى شيء لم يكن ليطمح إليه لولا أنه كثيراً ما التمس هداهم وما وجد إلى ذلك سبيلاً، طمح أن يقتص الله منهم، فرفع يده الشريفة قائلاً: «اللهم عليك بأبي جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط»(5).
أمَّا هم فقد كانوا لا يزالون يضحكون، مجموعة من السادة من ذوي القوة والسيادة تفعل ذلك برجل وحيد أعزل يسجد لربه، إن السيد الحق هو الذي يمتاز بالإحسان إلى غيره حتى لو تمايز معه في الرأي والهدف، واختلف وإياه في العبادة والعقيدة، وإن السيادة الحقة تكسر على السيد سفاهته في عنفٍ ولومٍ، وتصدّه عن السفه أو تصدّ السفه عنه، وهيا نُسْرِع مع الأيام، ونمضى خلف الدعوة الشريفة.
هيا أيتها الأيام أسرعي في دورتك، وضعي الفريقين وجهاً لوجه على ساحة «بدر».
وكانت الدعوة الشريفة قد ضربت في الأرض العريضة، وطال انتظارها لسادة قريش هناك فوق أديم «بدر»، متحرقة شوقاً إلى أن توجد القدرة الإلهية لها سبيلاً إلى التنفيذ، وفي ليلة بدر كان صلى الله عليه وسلم واثقاً تمام الثقة من إجابة دعوته، وهلاك صناديد قريش الذين سمَّاهم، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد مُضيّ سنين في إثر سنين على حرب «بدر»: إن رسول الله كان يُرينا مصارع أهل بدر بالأمس(6)، يقول: «هذا مصرع فلان غداً إن شاء الله»، فوالذي بعثه بالحق ما أخطؤوا الحدود التي حدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم(7).
وقُـتِلَ أبو جهل، وعتبة بن ربيعة، وأخوه شيبه، وابنه الوليد، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط(8).
وما يُعنينا هنا هو بيان قتل عقبة بن أبي معيط أبي أم كلثوم بنت عقبة ربة(9) هذه الدراسة السريعة في «بدر»، وأنف قتل أبيها راغم تاقت نفسها للهجرة إلى المدينة، وكانت واحدة ممن تخلفوا عنها، حيث منعها أبوها وأخواها الوليد، وعمارة، ولم تعد نفس أم كلثوم تأنس إلى سمر أترابها ولغو لداتها(10)، وتجاوب قلبها خفاقاً مع صدى نفسها، فهجرها الإشراق مع المهاجرين إلى يثرب، وتجلَّلت بالخواء والكآبة الخرساء، جو يفعم نفسها بملالة، واستيحاش يطعنها ولا يميتها ليجثم على فؤادها شعور بالتيه، لكأنها ماضية بين أحداث حلم طويل تتباين صوره ومشاهده، وفي كثير من الأحايين يتراءى لها بين أحداث الحلم من المرائي ما تهفو إليه نفسها وتتوق فترفع بصرها مستشرفة لحظات حلمها بالمدينة، وتجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم تعتصر كل فرحة الأيام في هذه الجلسة الشريفة، وهي تقصُّ عليه صلى الله عليه وسلم خبرها، ثم تجتذب أذنيها كلماتُه الشريفة على تشوق وانتظار.
وطفقت أم كلثوم تتربص بفرصة النجاة من إسار(11) أخويها، وأخيراً لاحت لها الفرصة، فدنت منها ثم أجادت استغلالها، وما نستشرف ذلك اليوم الذي خرجت فيه من وراء أعين قريش لتركب وحيدة هذا الطريق المرهوب الواصل بين مكة والمدينة إلَّا ونتمثل علو همتها، وصلابة عزمها، وإدراكها لبواعث وثمار المغامرة.
المغامرة؟! أجل مغامرة بكل ما تحمله الكلمة المطاطة من معانٍ بين طرفيها، خرجت إلى الطريق ترمي بنظراتها اليقظة هنا وهناك، ولو ساءها في هذه اللحظات قول لكان كل قول يأمرها بالعودة إلى مكة، وكذا لو ساءها فعل لكان كل فعل يجبرها على العودة، فتمنت لو تملك جناحين تهفو بهما في الهواء، وتشق الفضاء إلى المدينة شقاً، وراحت تتواثب في خفة حذرة، وتحثّ خطواتها على نهب طريق ليس لها به عهد، ولا ريب لديها من كثرة العقبات التي تخترمه، ولا ريب أيضاً أنها لاذت بالله ترجوه وتسأله التيسير، وما كان سبحانه وتعالى ليتخلَّى عنها، فقيّض لها رجلاً حازت نفسه الأمانة والمروءة من جميع أطرافهما ونواحيهما.
إن شأني لعجب وطالما أُحَمِّل خواطري الكليلة ما لا قِبَلَ لها به، فلئن حَـفَظَت أسفار(12) التاريخ خبر هجرة أم كلثوم عنها فلنسمعه منها، فإن ذلك يُـضْفي عليه تقديراً وإجلالاً ويُـبْدي لنا شمائلها اللطاف، فليصغ القارئ السمع إليها، ولا يستهن بها استهانة بي، لينصت الآن إنها تتحدث:
كنت أخرج إلى بادية لنا فيها أهلي، فأقيم بها الثلاث والأربع، وهي ناحية التنعيم، ثم أرجع إلى أهلي فلا ينكرون ذهابي البادية، حتى أجمعتُ المسير(13) خرجت يوماً من مكة كأني أريد البادية، فلما رجع من تبعني إذا رجل من خزاعة فقال: أين تريدين؟
قلت: ما مسألتك، ومن أنت؟ قال: رجل من خُزاعة، فلمَّـا ذَكَرَ خُزاعة اطمأننت إليه لدخول خُزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقده، فقلت: إني امرأة من قريش، وإني أريد اللحوق برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا علم لي بالطريق.
فقال: أنا صاحبك حتى أوردكِ المدينة، ثم جاءني ببعير فركبته، فكان يقود لي البعير ولا والله ما يكلمني بكلمة حتى إذا أناخ البعير تنحى عني، فإذا نزلت جاء إلى البعير فقيده بالشجرة وتنحى إلى فيء شجرة، حتى إذا كان الرواح حدج(13) البعير فقرَّبه وولى عني، فإذا ركبت أخذ برأسه فلم يلتفت وراءه حتى أنزل، فلم يزل كذلك حتى قدمنا المدينة فجزاه الله من صاحب خيراً.
فدخلت على أم سلمة وأنا منتقبة، فما عرقتني حتى انتسبت(15) وكشفت النقاب، فالتزمتني وقالت: هاجرتِ إلى الله عز وجل، وإلى رسوله، قلت: نعم، وأنا أخاف أن يردني رسول الله كما ردَّ أبا جندل، وأبا بصير، وحال الرجال ليس كحال النساء، والقوم مصبحي قد طالت غيبتي اليوم عنهم خمسة أيام منذ فارقتهم وهم يتحينون قدر ما كنت أغيب ثم يطلبونني فإن لم يجدوني رحلوا.
فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة، فأخبرته فرحب بي وسهَّل، فقلت: إني فررت إليك بديني فامنعني، ولا تردني إليهم، يفتنوني ويعذبوني، ولا صبر لي على العذاب، إنَّما أنا امرأة وضعف النساء إلى ما تعرف، وقد رأيتك رددت رجلين.
ولمَ تحذر أم كلثوم كل هذا الحذر، وتشفق على نفسها من أن يردَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومها وهي التي غامرت وخاطرت، وركبت الأهوال مهاجرة بدينها؟ لأنها هاجرت في هدنة الحديبية سنة 7هـ، وكان من شروط صلح الحديبية أنه «لا يأتي محمد أحد من قريش إلَّا ردَّه إليهم، وخلَّى بينه وبينهم وإن كان على دينه».
لذا خرج أخواها الوليد، وعمارة حتى قدما المدينة، وقالا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد، أوفِ لنا بشرطنا، وما عاهدتنا عليه.
فانبثق في رأس أم كلثوم رضي الله عنها خاطر ملك عليها مشاعرها وجعلها تسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم: أتردني يا رسول الله إلى الكفار يفتنوني عن ديني، ولا صبر لي وحال النساء من الضعف ما قد علمت؟
فأنزل الله تعالى في شأنها قرآناً يُتلى إلى يوم القيامة، راحت أم كلثوم تصغي إلى كلماته وهي تتألق على الفم الشريف: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) (الممتحنة: 10).
وامتحنها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما امتحن النساء بعدها، بقوله الشريف: «والله ما أخرجكن إلَّا حب الله ورسوله والإسلام، وما خرجتنَّ لزوج ولا مال»(16).
قالت عائشة رضي الله عنها: فمن أقرَّت بهذا الشرط منهن قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد بايعتك»، كلام يكلمها به، والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة، وما بايعهن إلّا بقوله(17)، فلمَّا أقرت أم كلثوم بهذا الشرط قال النبي صلى الله عليه وسلم للوليد، وعمارة أبي عقبة: «قد نقض الله العهد في النساء بما قد علمتاه»؛ فانصرفا(16).
ويقيناً أن أم كلثوم زفرت في راحة، ومع مرور الأيام كانت تستعيد النبرات الشريفة في شغف وتلذذ واستمراء؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ).
واستقرت أم كلثوم في دنياها الجديدة في هناءة لم تعهدها من قبل بين أبويها أو أخويها، وانعكست مشاعرها على كل ما حولها، فراحت ترى الأشياء بعيون تبتسم وهي تجدّ في مسيرتها لتلحق بالركب السبَّاق، مدركة تبعات دينها وتتحملها خير التحمل.
ولم يكن لأم كلثوم زوج بمكة، ولكرامة أم كلثوم في الإسلام وعند المسلمين تزوجت من أربعة من كرام الصحابة، حيث تزوجت زيد بن حارثة، فلمَّا استشهد عنها بـ«مؤتة»، تزوجها الزبير بن العوام فولدت له زينب ثم طلقها، فتزوجها عبدالرحمن بن عوف وأولدها إبراهيم، وحميداً، فلمَّـا توفي عنها تزوجها عمرو بن العاص فتوفيت هي عنه في خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنهم جميعاً(18).
ورحلت أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها إلى ربها، بعدما جعلت من أحداث حياتها صغيرها وكبيرها ما يثيرها ويدفعها نحو هدفها، وما كان لها هدف في أُولاها وأُخراها من هذا السياق، سوى اللحاق بالركب السبَّـاق.
_______________________
(1) الخيانة المهلكة.
(2) أحشاء الحيوان؛ اللفافة التي يكون فيها الجنين في بطن الحيوان، والجزور: البعير.
(3) أوجعه من شدة الحزن.
(4) لا يتحرك.
(5) حديث صحيح: أخرجه البخاري (1/ 69)، ومسلم (1794).
(6) في الليلة التي كان صباحها معركة «بدر».
(7) حديث صحيح: أخرجه مسلم (2873)، وأحمد (219).
(8) راجع: أعظم دلائل صدق النبوة (معجزة الدعوة القاتلة) للمؤلف، ط دار التوفيقية للتراث بالقاهرة.
(9) صاحبة.
(10) الأتراب واللدَّات هم المماثلون في السن، جمع ترب، ولدَّة.
(11) الأسر، والحبل الذي يُـقيد به الأسير.
(12) كتب.
(13) عقدت عزمها على الهجرة.
(14) الحِدْجُ: مركب من مراكب النساء كالهودج، والمِحَفَّة.
(15) ذكرت اسمها ونسبها.
(16) طبقات ابن سعد (8/ 230).
(17) حديث صحيح، أخرجه البخاري (6/ 240)، وأحمد (4/ 331).
(18) طبقات ابن سعد (8/ 230)، طبقات خليفة (332)، تاريخ الإسلام (2/ 254)، صفة الصفوة (137)، المستدرك (4/ 66)، الإصابة (12231)، الاستيعاب (3663)، أسد الغابة (7585).