د. يحيى، أكتب إليك وقد أظلمت الدنيا في وجهي، رغم ما قد يحسدني عليه أقرب الناس إليَّ، نعم فأنا ولله الحمد متزوجة وحياتنا أنا وزوجي متناغمة؛ فزوجي خلوق مهذب كريم في تفاعله العاطفي والمادي، رزقنا الله بثلاثة ذكور وبنتين، ورغم ما نوفره لهم من رغد العيش والرفاهية، فإنهم سبب شقائنا وما قد يحدث بيني وبين والدهم من اختلاف بسببهم! فقد أحالوا حياتنا إلى جحيم!
دعني أوضح لكم تصورات زوجي قبل الزواج: كان زوجي يحلم بأن يكون أباً لعدد كثير من الذكور! لأنه كان الابن الوحيد لوالديه، وشاء الله تعالى ألا يكون له قرناء من أقاربه، تربى زوجي وإحساس الوحدة يلازمه، توفي والده وترك له مجموعة من الشركات، وتركة من صلة الأرحام، وكم تمنى أن يكون له إخوة يشاركونه هذه الأعباء!
الحمد لله، بعد زواجنا مباشرة حملت وكم كانت فرحة زوجي وأمله أن يكون الجنين ذكراً يعوضه حرمان الإخوة، شاء الله أن ألد بنتاً، ورغم تديُّن زوجي، فإنني لاحظت عليه الصدمة، وكنت أتجاهل ذلك، إلا أنني سألته مباشرة: هل أنت حزين لأن الله رزقنا ببنت؟ قال: لست حزيناً، ولكنني غير سعيد، كنت أتمنى ابناً، بادرته بأن الله هو الرزاق..
قاطعني، وقال: كل ما ستقولينه أنا أعرفه وقلته لنفسي، ولكنني، كما تعرفين، عشت وحيداً لم يكن لي إخوة ولا أولاد عم ولا.. فقلت: لكن الله قد عوَّضك بإخوة في الله وأصدقاء، وإن شاء الله يرزقنا بما يسعدك.
أعيش حلبة مصارعة وليس في بيت ينعم فيه الأولاد بأخوَّتهم.. لماذا لا يحبون بعضهم؟!
للأسف الشديد، أثرت نفسية زوجي على تعامله مع ابنتنا، فنادراً ما كان يحملها، ناهيك عن أن يحتضنها ويقبِّلها!
الحمد لله، حملت ومنَّ الله علينا بمولود ذكر بعد حوالي ثلاث سنوات، وطار زوجي فرحاً، وأغدق على ابننا ما ضنَّ به على ابنتنا! تأثرت ابنتا كثيراً، وقالت لي ذات مرة: إن أبي لا يحبني، إنه يحب أخي فقط، فلم أعرها اهتماماً، إنها مجرد طفلة، حاولت من جانبي أن أعوّضها عن جفاء والدها، خاصة أنه قد عنَّفها بشدة عندما اكتشف أنها قد عضت أخاها، وخوفاً على ابني أبعدتها عنه، فكنت أغلق عليه الغرفة حتى لا تؤذيه.
ورزقنا الله بعد ذلك بابنة، وتكررت المأساة مرة أخرى، ثم ولدين، وللأسف كان للأبناء النصيب الأوفر من الرعاية والاهتمام من والدهم سواء كان اهتماماً معنوياً أو مادياً، وعلاجاً لذلك كنت أعوّض أنا البنتين.
أصبح البيت صراعاً بين الفريقين؛ كل فريق يود الإيقاع بالآخر، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل تضاعفت نتيجة التباين بينهم في الدراسة، فنتيجة للحب غير المنضبط من زوجي لابنه الأول وتلبيته لكل طلباته وعدم عقابه عند خطئه؛ تحول الولد إلى شخصية متمردة، وأثَّر ذلك على تحصيله الدراسي، وكثيراً ما كان يقارنه بأخيه الأصغر.
وجد زوجي أمله في ابنه الأصغر؛ فزاد اهتمامه به على باقي أولاده؛ مما أوغر الغيرة في قلوبهم، وأصبح همّ باقي الأولاد كيف يعوقون أخيهم عن دراسته، أو بيان نواقصه، ولم يقتصر الأمر على الحب الخاص لابنه المتفوق دراسياً، بل المشكلة أنه كان كثيراً ما يأخذ شكل ابنتي الصغرى مادة للضحك، حيث كانت تعاني من الشعر في وجهها فيناديها بأسماء مذكرة تهكماً ويضحّك إخوتها عليها! وعبَّرت مرة لي أنها تكره أختها لأنها أجمل منها.
حرمان زوجك لابنتكما من العطاء العاطفي ظلم وجاهلية وله آثاره السلبية على نموها
أشعر أنني أعيش حلبة مصارعة وليس في بيت ينعم فيه الأولاد بأخوَّتهم، يتسامرون ويلعبون معاً، أدور في حلقة مفرغة من المشكلات التي يحرص كل منهم على أن يوقع إخوانه بها، لماذا الأولاد لا يحبون بعضهم؟!
الحل
الأولاد نعمة جلية من الله تعالى، وأمانة عظيمة سنسأل عنها، وندعو الله أن يوفقنا لأداء كل الأمانات التي ابتلانا بها، مع اليقين أن الله لم يكلفنا إلا بما هو في وسعنا؛ (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) (البقرة: 286)، إن حالة أولادكما كما بينتها ابتلاء عظيم، ولكن هذا نتيجة لأخطائكما التربوية معاً وليس زوجك فقط، وما جنيتما على أولادكما، سأتناول تصرفاتكما وآثارها التربوية، وكيف أوصلت الأولاد لهذا المستوى من سوء علاقتهم ببعضهم:
– أثر حرمان الأولاد من الشعور بالحب: تشير كثير من الدراسات إلى أن الأولاد يحتاجون إلى من يقبّلهم ويحتضنهم ويداعبهم، ولا يؤثر ذلك في نموهم وجدانياً فحسب، بل بدنياً أيضاً، وتتعدد الآثار السلبية المترتبة على الحرمان الوجداني من الشعور بالوحدة والعدوانية وفقدان الثقة في النفس والأسرة، إن حرمان زوجك لابنتكما من العطاء العاطفي ظلم وجاهلية، وللأسف له آثاره السلبية على نموها.
– الحب المَرَضي: نعم يجب علينا أن نعبر لأولادنا عن حبنا، ولكن من خلال الأسلوب التربوي المناسب لشخصيته، أما أن يحول الحب دون نهرهم عن الخطأ أو حثّهم على الصواب؛ فهذا ضياع للأمانة وجناية في حقهم، كما أنه تدمير لنفسية الطفل بأن نشعره أنه متميز عن أخته لمجرد أنه ولد ذكر، وهي بنت؛ فنشعل في قلب أخته الغيرة منه، بل كرهه ومحاولة إيذائه، كما ذكرت؛ فينشأ الطفل في عزلة نفسية، ويرى في نفسه علواً، ويفشل في إدارة مشاعره وتوجيه قدراته، ويؤثر ذلك سلباً، كما ذكرت، على تحصيله الدراسي.
الوالدان مصدر الحب والحنان وليس مقبولاً أن يسخر والد من سلوك ابنته خاصة شكلها
– أثر تفوق الأولاد على علاقتنا بهم: يجب علينا أن نشجع أولادنا على التفوق، وأن نحتفي بهم، ولكن دون مبالغة فنثير غيرة إخوانهم، إن تحول اهتمام زوجك لابنكما المتفوق قد أشعل الغيرة في قلوب إخوانه عليه، ولنا في قصة يوسف وإخوته العبرة؛ (إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ {8} اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ) (يوسف).
– السخرية من نقصٍ بالأولاد: إن من أكثر السلبيات تدميراً للإنسان بصفة عامة السخرية منه، لأنها تفقد الثقة بالنفس وليس بالشخص الذي سخر منه فقط، بل المحيط الذي أهين به، وقد نهانا الله عن ذلك: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ) (الحجرات: 11)، إن الوالدين هما مصدر الحب والحنان، يهرع إلى حضنهما الأولاد طلباً للأمان النفسي مهما بلغا من العمر، وليس من المقبول، بل ليس من المتصور أن يسخر والد من سلوك ابنته، ناهيك عن أن تكون السخرية من شكلها، التي من فطرتها الاعتزاز بشكلها!
– دور الزوج في إصلاح زوجه: إن من أهم الأدوار الذي يجب على الزوج القيام بها مع زوجه، دلالته إلى كل خير وإعانته عليه، وهو الأجدر على القيام بهذه الرسالة، وصول علاقة الأولاد إلى هذه الدرجة من العداوة نتيجة أنك لم تقومي بدورك لتعديل أخطاء زوجك التربوية.
– فريقان بالبيت: إن نجاح التربية في تحقيق أهدافها يعتمد بعد توفيق الله على مدى التنسيق والتكامل بين الزوجين في تربية أولادهما، كما أنه لم يعانِ الأولاد من الممارسات التربوية الخاطئة لزوجك، بل منك أيضاً، لقد نسبت الأبناء لوالدهم في أكثر من موضع، مما يبين أنك اكتفيت بميل الأب للذكور وكأنهم أولاده فقط! إن انقسام البيت إلى فريقين يوغل في قلوب الأبناء العداوة ضد الآخر، ويطمس الشعور بالانتماء للأسرة، ويضعف، بل يقطع صلة الأخوة.
قضاء أكبر وقت مع الأولاد ومشاركتهم أنشطتهم يعودهم على التعاون والشعور بروح الفريق
التوصيات
– الاستغفار والتوبة والدعاء للأولاد.
– تنمية المعارف التربوية، فما يتم الواجب إلا به فهو واجب؛ (قراءة، فيديو، محاضرات وندوات، استشارات..).
– قضاء أكبر وقت ممكن مع الأولاد، والتفنن في أنشطة مشتركة (مسابقات دينية، علمية، ثقافية..)، يمكن تقسيم الأولاد إلى فرقتين –على أن تتغير الفرق في كل مسابقة- وتكون الجوائز لكل أعضاء الفريق، فيتعود الأولاد على التعاون معاً، ويشعرون معنى فوز الفريق.
– إسناد مهام لمجموعة من الأولاد يتعاونون معاً لإنجازها؛ مثل: تنظيف البيت، التواصل مع صلة الرحم، إعداد برنامج لرحلة، تنظيم قيام ليلة كل شهر، على أن يساهم كل اثنين معاً في تقديم فقرة (سيرة، خاطرة، من نوادر العرب، الشعوب، قصة إسلام صحابي، فتح بلد، أجمل ما في أخي حيث يتبارى الأولاد في ذكر مناقب إخوانه..).
– لوحة الشرف: الأخ المثالي يضع الأولاد قواعد التميز: التعاون، العطاء، التسامح، الكرم..
– الاحتفال بالتفوق: جائزة للأكثر تديناً، جهداً، درجات، تنظيماً للوقت، سلوكاً، صلة للرحم.. بحيث يحصل الجميع على جوائز.
– نشجعهم على التهادي فيما بينهم؛ «تهادوا تحابوا»، فنعطي لهم النقود وهم يختارون هدايا لإخوانهم كما يشاؤون، ومن بادر بنفسه نضاعف له جزاء مبادرته.
– الجائزة فد تكون معنوية، أو رمزية، أو نقدية، أو شيء له قيمة لتعديل السلوك؛ مثل الكتاب، أو تنمية مهارات الذكاء، أو حث على الرياضة البدنية.