أكثر من 12 ألف طفل استشهدوا جراء القصف «الإسرائيلي»، بواقع 8 من كل 10 شهداء في غزة من الأطفال والنساء، منذ 7 أكتوبر الماضي، في مجزرة ربما تكون هي الأبشع في التاريخ الحديث ضد الطفولة.
أطفال لم يبلغوا الحلم، يواجهون حرب إبادة بالصواريخ والقنابل والقذائف والأسلحة المحرمة دولياً، وسط صمت مخز من منظمات الطفولة، وحقوق الإنسان، التي تقلب الدنيا رأساً على عقب إذا جرى تداول مقطع فيديو مهين لكلب أو قطة.
لغة الأرقام تحمل الكثير من الألم والقهر، فبحسب منظمة «إنقاذ الطفولة» (مقرها بريطانيا)، فإن أكثر من 10 أطفال يفقدون إحدى الساقين أو كلتيهما يومياً في قطاع غزة، تحت ويلات العدوان «الإسرائيلي» المتواصل للشهر الرابع على التوالي.
بينما يقدر «المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان» إجمالي عدد الأطفال ضحايا الهجمات جرائم الإبادة التي ينفدها الاحتلال «الإسرائيلي» في قطاع غزة بنحو 700 ألف طفل، ما بين قتيل ومصاب ومشرد من دون مأوى.
وتشهد غزة وضعاً جديداً يعرف اختصاراً بـ«ط م ب أ ح»؛ أي «طفل مصاب بدون أسرة حية»، وهو اختصار مرعب ومتكرر، يكشف عن ارتفاع عدد الأطفال الجرحى الذين فقدوا أسرهم بشكل كامل.
يضاف إلى ذلك حرب التهجير والتجويع، وهدم المنازل والمدارس والمستشفيات، فضلاً عن إصابات الحرق والبتر، والصدمات النفسية التي ستترك آثارها على أجيال من هؤلاء الأطفال، الذين ينامون ويستيقظون على صوت الرصاص والصواريخ، ليُحرموا من طفولة بريئة وطبيعية كأقرانهم حول العالم.
لقد بات أطفال غزة يشاهدون الموت كل ليلة، لا أفلام الرسوم المتحركة (الكارتون)، يسمعون أصوات القذائف، لا أصوات العصافير، يشاهدون النار والدمار، لا الزهور والورود، كما يحيا أطفال المجتمعات الأخرى، والدول المجاورة.
باتت غزة أخطر مكان للأطفال في العالم، وأصبحت مستشفياتها شاهدة على حجم عمليات البتر التي تستأصل أطرافاً من أطفال، لم يفعلوا شيئاً لهذا الكيان الغاصب، سوى تشبثهم بأرضهم وأهلهم.
أطفال بدلاً من الذهاب إلى مقاعد الدراسة، يذهبون إلى الموت حتفاً، دون جريرة أو ذنب، وقد فقدوا الأب والأم والشقيق، ومعهم فقدوا الأمان والحنان، في مشاهد مؤلمة ستظل تلاحق الحكام والسياسيين والخونة ممن صمتوا على اغتيال الأطفال.
فيديو طفل غزة المذعور، الفلسطيني محمد أبو لولي الذي وصل إلى المستشفى، وهو في حالة من الصدمة والرعب وأطرافه ترتجف من الخوف والهلع، يشعرك بإثم وجرم تقصيرنا في حق هؤلاء.
لكن، وعلى الرغم من تلك المأساة، فإن أطفال غزة يسطرون ملحمة من الصمود، وهم يقفزون فوق الركام، ويلوحون بعلامة النصر، ويصفقون لرشقات المقاومة وهي تقصف مغتصبات العدو.
شاهدوا أطفالهم في المخيمات، وبين ركام المنازل، سترون أطفالاً من عجينة أخرى، وقد باتوا لا يهابون الموت، بل تجد الطفل منهم يلقن صديقه شهادة التوحيد، وآخر يتعهد الثأر لشقيقه.
أطفال المستقبل في غزة يقلدون خطابات أبي عبيدة، ويلعبون لعبة الرماية، وكأنهم يتجهزون للعدو من مسافة الصفر، ويبرقون رسالة بأنهم سيكونون قادة المقاومة في السنوات المقبلة، ليكرروا «طوفان الأقصى».
عندما تسمع رسائل أطفال غزة، وتشاهد مقاطع الفيديو التي يبثونها عبر مواقع التواصل، فإنك تنحني خجلاً أمام صغار في السن، لكنهم كبار في القامة، والهمة، والعزيمة، وقد لقنوا العالم درساً في العزة والشموخ.
مقطع الأطفال الذين حملوا طفلة على سرير متجولين بها بين ممرات أحد المستشفيات، وهم يرددون «الشهيد حبيب الله»، فيما يشبه حمل جثامين ضحايا القصف «الإسرائيلي»، ينبئك بأنك أمام إعجاز بشري، وجيل واعد سيسير على الدرب؛ لتحرير «الأقصى» الأسير.
أطفال لكن أبطال، ربما كبروا قبل الأوان، ربما هم من طينة أخرى، وجينات مختلفة، وقد خبروا مبكراً المحن والابتلاءات، فقويت قلوبهم، واشتد عودهم، وصار كل واحد منهم مشروع مقاوم، وبطلاً «قسامياً»، ومجاهداً من طراز رفيع.
قادة المقاومة اليوم هم أطفال الأمس الذين التفوا حول أحمد ياسين، وعبدالعزيز الرنتيسي، وصلاح شحادة، ويحيى عياش، وغيرهم، فخرج منهم قادة الألوية والكتائب والسرايا، ومطورو القذائف والصواريخ والمسيرات.
هم أطفال الحجر الذين شبوا فسطروا ملحمة الطوفان من المسافة صفر، وزلزلوا أركان العدو، وأبكوه دماً ودمعاً، بعد أن أسروا قادته، وفتكوا بجنوده، ودمروا دباباته ومدرعاته، فكان منهم السنوار، والضيف، وأبو عبيدة، وأبو حمزة.. وغيرهم.
لقد علمتمونا الكثير، وسنردد ما قاله الشاعر السوري الراحل نزار قباني، عام 1988م، في قصيدته الخالدة «يا تلاميذ غزة»، مخاطباً إياهم:
يا تلاميذَ غزّة.. عَلّمونا بعضَ ما عندكم فَنَحنُ نِسينا
عَلِّمونا بأن نكونَ رجالًا فلدينا الرِّجالُ صاروا عَجينا
عَلّمونا كيف الحجارةُ تغدو بين أَيدي الأطفالِ ماسًا ثَمينًا
كيف تغدو درَّاجة الطِّفلِ لُغمًا؟ وشَريط الحرير يغدو كَمينًا
كيف مصّاصة الحليب إذا ما اعتقلوها تحوَّلت سِكِّينا
يا تلاميذ غزة لا تبالوا بإذاعاتنا ولا تسمعونا
اضربوا اضربوا بكل قواكم واحزموا أمركم ولا تسألونا
نحن أهل الحساب والجمع والطرح فخوضوا حروبكم واتركونا
إننا الهاربون من خدمة الجيش فهاتوا حبالكم واشنقونا
نحن موتى لا يملكون ضريحا ويتامى لا يملكون عيونا
قد لزمنا جحورنا وطلبنا منكم أن تقاتلوا التنينا
قد صغرنا أمامكم ألف قرن وكبرتم خلال شهر قرونا
يا تلاميذ غزة لا تعودوا لكتاباتنا ولا تقرأونا
نحن آباؤكم فلا تشبهونا نحن أصنامكم فلا تعبدونا
نتعاطى القات السياسي والقمع ونبني مقابر وسجونا
حررونا من عقدة الخوف فينا وطردوا من رؤوسنا الأفيونا
يا أحباءنا الصغار سلاماً جعل الله يومكم ياسمينا
من شقوق الأرض طلعتم وزرعتم جراحنا نسرينا
هذه ثورة الدفاتر والحبر فكونوا على الشفاه لحونا
أمطرونا بطولة وشموخاً واغسلونا من قبحنا اغسلونا
إن هذا العصر اليهودي وهم سوف ينهار لو ملكنا اليقينا
يا مجانين غزة ألف أهلاً بالمجانين إن هم حررونا
إن عصر العقل السياسي ولى من زمان فعلمونا الجنونا