الجنرالات والقادة العسكريون، وكذلك السياسيون الذين يتخذون قرار الحرب يُفكرون بثلاثة أمور رئيسة: هدف الحرب، وإدارة الحرب، وكيف تنتهي الحرب؟
هذه الأسس الثلاثة تجعل أيّ قائد سياسي أو عسكري يضمن النتيجة النهائية لصالحه في أيّ حربٍ يدخلها، وهذه الأمور نفسها إن فُقد عنصر واحد منها خسر الحرب، ولذلك ربما كان قادة الاحتلال «الإسرائيلي» لا يزالون يبحثون عن هذه الأسس، ولم يتعلموا مبادئ الدرس أصلاً أمام مقاومة مستعدة لكل الخيارات، فدخلوا الحرب بعد 17 أكتوبر، من دون وعي أو وضوح رؤية، وكانوا أشبه بالقطار السريع الذي يمشي من دون سكة أو جهة، ومن دون سائق، فيدهس كل من أمامه، وفعلاً هذا ما حدث حين قصفت المروحيات «الإسرائيلية» الحفل الموسيقي قرب مستوطنة ريعيم في غلاف غزة أثناء عملية «طوفان الأقصى»، وقتل 364 مستوطناً، حسب «هاآرتس» العبرية، أو في تكرار قصف عدد من المستوطنين الذين هربوا من مستوطنات الغلاف، ثم دخل كيان الاحتلال «الإسرائيلي» في مواجهة تامة مع المقاومة الفلسطينية من دون مراعاة الأسس والمعايير الثلاثة للحرب.
انتصار قبل الحرب.. المقاومة ترسم الأهداف والمسارات
المقاومة الفلسطينية، وقبل أن تذهب إلى معركة 7 أكتوبر، وضعت لنفسها أهدافاً عدة في مواجهة قوات الاحتلال، منها ما هو علني، ومنها ما هو سري، وتمثلت الأهداف العلنية في: فك الحصار عن قطاع غزة، وتحرير الأسرى في سجون الاحتلال، ووضع حد للانتهاكات «الإسرائيلية» للمسجد الأقصى، ومنع التقسيم الزماني والمكاني له.
أما الأهداف السرّية، تمثلت في: منع مخطط كيان الاحتلال في هدم «الأقصى» المبارك، خصوصاً بعد أن زادت عمليات الحفر في أسفله، وزادت الأنشطة اليهودية، ومنها جلب الجماعات التلمودية بقرات تشبه البقرة المقدسة المذكورة في كتبهم، بهدف حرقها، وتطهير ملايين المستوطنين المتطرفين برمادها، ثم دفعهم للدخول إلى المسجد الأقصى لهدمه؛ لأن اليهودي يُمنع من الدخول إلى المسجد الأقصى ما لم يطهر، والنجس عندهم هو الذي لمس ميتاً، أو لمس شخصاً لمس ميتاً؛ ما يعني أن المجتمع لديهم كله نجس، ومن ثم يجب تطهيره بهذه الطقوس التلمودية، ومن ثم اختارت المقاومة أن تُضحي بنفسها، وتُنفذ هذه العملية لضرب المخطط «الإسرائيلي» الذي تُجريه عياناً بياناً، ومن دون خوف.
وكان من الأهداف غير المعلنة، ضرب مؤسسات الكيان المحتل الاستخباراتية والعسكرية، التي تعد مصدر طمأنينة للجمهور «الإسرائيلي» الذي يُعدها صمام أمانه، خصوصاً أمام أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، والأمن الذي يؤطر العمليات الاستخباراتية، ويكشف ما يحاك ضده، ولا يستطيع أحد اختراقه، بالإضافة إلى ضرب شعور الأمان الذي تسلل إلى قلوب المستوطنين منذ عام 1948؛ لأنه منذ ذلك الوقت لم تُشن أي حرب مؤثرة على المستوطنات والمدن المحتلة، فمثلاً حرب المقاومة الفلسطينية في الأردن في أواخر ستينيات القرن الماضي، كانت على أراض في الضفة الغربية، وحرب الاستنزاف كانت على الأراضي التي احتلها الصهاينة عام 1967م، وحرب عام 1973م كانت على الأراضي نفسها، وحتى المواجهة بين الجيشين السوري و«الإسرائيلي» عام 1982م كانت في الأراضي اللبنانية، وحرب تموز 2006م كانت في لبنان، ومن ثم لم تُشن أيّ حرب على أراضٍ احتلها كيان الاحتلال، ويُعدها أرضه منذ عام 1948م، وشعور الأمان هذا أرادت المقاومة تقويضه، وضربه في الصميم.
لقد أعدت المقاومة إستراتيجيتها العسكرية لتحقيق كل تلك المكاسب، وكان أساسها إضعاف نقاط القوة «الإسرائيلية» في معسكرات ومستوطنات غلاف غزة، وليس استغلال نقاط ضعفها فحسب، لأنك لو أردت الانتصار في معركة، عليك ضرب قوة خصمك، أيّ أنها لم تبحث عن نقاط ضعف المحتل، وقد كانت نقاط قوته في كتيبة غزة، وأجهزة المراقبة التي نصبها لمراقبة حدود القطاع، وفي السياج العازل الذي زاد من تحصينه، ولغّمه، واختارت المقاومة أن تكون الحرب حاسمة في يوم واحد، وهو في عطلة «الإسرائيليين»، وفي اليوم نفسه تنتهي بعد تحقيق الهدف، وهو أسر أكبر عدد من «الإسرائيليين»، وتدمير فرقة غزة العسكرية، وسحب المعلومات العسكرية السرية الموجودة في خوادم الجيش والأجهزة العسكرية حول القطاع، وقبل هذا كله كانت بيئة المقاومة الحاضنة على قلب رجل واحد، والجميع يتطلع لكسر العدو وللتحرير، ولذلك، فإن المقاومة انتصرت أولاً، ومن ثم ذهبت إلى الحرب.
الانكسار «الإسرائيلي» والذهاب إلى الحرب
دخل جيش الاحتلال حرب غزة، وهو مشتت ومنهك على جميع الصعد؛ العسكرية والاستخباراتية والشعبية، فهو لا يعرف سبل النصر الحقيقي الذي يريده، فتارة يقول: إن النصر في إنهاء وجود قوة حركة «حماس» في قطاع غزة، وتارة يقول: إن النصر في استعادة الأسرى الذين في أيدي المقاومة، وتارة يقول: إن النصر في إعادة السيطرة على غزة، وتسليمها لحكومة تُواليه، ثم يتراجع ويتحدث عن وجود شبه عسكري، وغيرها من التصريحات التي توضح أن «الإسرائيلي» لم تكن لديه تصورات حقيقية عن المعركة وإستراتيجياتها ومساراتها، أو ما النصر الذي يريده؛ لأنه فعلياً دخل الحرب مهزوماً، وحاول إيجاد النصر في ساحة المعركة.
واعتمد «الإسرائيلي» في إثبات قوته في سيطرته على الأجواء، وتكثيف القصف والنيران، والمعدات العسكرية الحديثة، وقدرته على حشد أكبر عدد من جنود الاحتياط بحكم أن «الإسرائيليين» جميعهم جنود من عمر الـ18 حتى الـ60، ونال دعماً غربياً سياسياً وعسكرياً وأمنياً منقطع النظير، ولكنه تجاهل نقاط ضعفه المتمثلة في هشاشة وضعه السياسي الداخلي، وعدم تحضير جنود الاحتياط للحرب تحضيراً كاملاً، ولم تكن لديه الفكرة كاملة عن الوضع الميداني في غزة، وتجاهل نقاط قوة حركة «حماس»، والمتمثلة بشبكة الأنفاق المتشعبة والمعقدة في غزة، ومنصات الصواريخ المتنقلة والكثيرة، وعن حجم عمليات المباغتة الفردية الميدانية، وتلغيم الآليات في حرب الشوارع، بالإضافة إلى الأسرى الذين بين أيدي المقاومة، وما يشكلونه من ضغط على الحكومة من داخل «إسرائيل».
وكان يمكن للكيان المحتل أن يجري عوضاً عن شن الحرب تحقيقاً في الجيش والشرطة، وتتحمل القضية شخصية ما تذهب للمحاكمة، وتمتص غضب الشارع، ثم تجري صفقة تبادل للأسرى مع المقاومة، ومن ثم تُسحب هذه الورقة من غزة، ثم تستمر بالترويج لما يسمى مظلوميتها في عملية «طوفان الأقصى» على مدى أشهر عدة، لكن «تل أبيب» فشلت في تقدير مسارات العملية، وأهدافها، ومتى تبدأ؟ ومتى يجب أن تنتهي؟ ومن ثم في هذه الأمور جميعها باءت بالفشل، وبدأت تغرق في أوحال غزة الراكدة.
المقاومة تمتلك زمام المبادرة والمباغتة
هذه القاعدة فهمتها المقاومة في فلسطين ولبنان، ووضعت إستراتيجية واضحة مبنية على خطوط عدة للمواجهة، مثلاً حركة «حماس» لم تدخل في أي معركة منذ عام 2021م، وبقيت على الحياد طوال تلك المدة، ومارست الخداع الإستراتيجي في مواجهة الاحتلال، حتى جاءت لحظة «طوفان الأقصى»، ونفذت ضربتها وعادت إلى قواعدها تنتظر رد فعل المهزوم، ومن يتابع مقاطع الفيديو التي تنتجها «القسام» و«سرايا القدس» يعلم أن الجميع قد تحضر لمعركة بعيدة الأمد، والمقاومين في الأنفاق منذ أشهر، و«طوفان الأقصى» لم تكن لحظة عابرة، بل كانت محسوبة بكل تفاصيلها، وحتى في دخول المقاومة اللبنانية كانت عبر إستراتيجيات أمنية وتنظيمية دقيقة في شكل الرد والتوسع في الميدان، وبالتالي، تحول الجيش «الإسرائيلي» لهدف سهل المنال في كثير من المواقف الميدانية، وبات هو صاحب ردود الفعل، وليس الفاعل الأول.
حروب المقاومة تختلف عن حرب الجيوش التقليدية؛ لأنها حروب مع مجتمعات عسكرية، وهؤلاء لديهم من الدعم الشعبي الكثير، وكل شهيد يرتقي في صفوفهم يزيد التأييد الشعبي لهم، ولم تنفع جرائم المحتل في زيادة الضغط الشعبي على المقاومة، لكنها تجاهلت أن هذه المقاومة هي الشعب، ولن تنقص بعض القلوب المكسورة والمفجوعة في غزة من معنويات المقاومة ومنزلتها ودورها في نظر أبناء شعبها، فالشارع الغزّي شارع مقاومة وصمود وتحد وتضحيات، ويمثل مسيرة أمة، اختارت طريق الكفاح والتحرير، ورضيت بهذا الدور استكمالاً لمشروع البناة الأوائل الذين رسموا دروب الشهادة والحرية.