نكمل، في هذا المقال، سمات المدرِّب المتألِّق، التي كنا قد وضحنا في المقال السابق سمتين منها، وهما: التوجيه والتطوير، والإقناع والتأثير.
3- التفاني والإصرار:
ينبغي أن تصل سمة التفاني والإصرار إلى حدها الأعلى لدى المدرب المتألق، فيحدد لنفسه مهمات عديدة، بحدود ثلاث أو أربع مهمات في كل دورة تدريبية، يتفانى في تنفيذها، ويصر على تحقيقها.
ومن أنواع المهمات التي يحرص المدرب المتألق على تنفيذها قبل الدورة: دراسة المتدربين قبل الالتقاء بهم، ومعرفة طرق التواصل معهم، ودراسة مكان اللقاء، وتوفير سبل الراحة فيه، وتهيئة بيئة محفزة للمتدربين، وتوفير هدايا رمزية لهم، وإعداد مادة تدريبية متميزة، وإرسالها لهم قبل الدورة.
المدرِّب المتألِّق يسأل عن طبيعة المتدربين وأعمارهم ومستواهم الثقافي قبل اللقاء بهم
وللتعبير عن ذلك، نذكر هذه القصة: كنت في مكتبي بجامعة الكويت في أثناء الساعات المكتبية، فإذا بطالب يطرق الباب، يستأذنني في الدخول فأذنت له، ودار هذا الحوار بيني وبينه:
الطالب: بارك لي د. موسى تخرجي في كلية الهندسة، وأنا الآن أبحث عن وظيفة.
قلت له: بارك الله في تخرجك، وأين تريد العمل؟
الطالب: لقد سألت سؤالاً جيداً، وبهذه المناسبة، أريد منك زيارتنا في منطقة الجهراء، لإلقاء محاضرة على مجموعة من الأحباب.
قلت له: يسعدني ذلك، متى الوقت الذي يناسبكم؟
هنا، تم تحديد موعد المحاضرة، وجهزت مجموعة من الشرائح الإلكترونية حول الفرص الوظيفية للمهندسين في الكويت، وذلك لعرضها عليهم في أثناء اللقاء، وانطلقت إلى المكان الذي حدده لي وفق الزمن المتفق عليه.
رحب بي المهندس (الطالب المتخرج)، فوضحت له أن المحاضرة جاهزة، وسألته عن مكان العرض، فأرشدني إلى خيمة! وأن بها شاشة عرض، و«بروجكتور»، ولوحاً ورقياً، وأوراقاً، وأقلاماً.
واعجباً لما حدث بعد ذلك! دخلت الخيمة فوجدت فيها شيوخاً كباراً في السن من المتقاعدين عن العمل، قد تجاوزت أعمارهم السبعين! كل منهم قد التحف برداء شتوي (بشت)، وأخرج يديه من فتحتين ضيقتين في الرداء، يريد تدفئتهما فوق منقلة بها جمر!
قلت للمهندس: أين أحبابك خريجو كلية الهندسة؟ لقد أعددت لهم عرضاً عن الفرص الوظيفية للمهندسين في الكويت!
.. ويحرص على ربط المتدربين به بالاهتمام بهم قبل الدورة وفي أثنائها وبعد الانتهاء منها
قال المهندس: أنا قلت لك: إنهم مجموعة من أحبابي، وأردت منك أن تشاركني فرحة تخرجي معهم، ولم تسألني عن أعمارهم، ولا عن طبيعة الموضوع الذي سيُطرح، وأعجبني فيك، أنك وافقت مباشرة على طلبي، من دون تردد!
لقد أسقط في يدي! ألقيت التحية على الأحباب، وجعلت حاسوبي وراء ظهري، وشاركتهم دردشة حول الأوضاع الساخنة في البلد، في أمور لا علاقة لها بالفرص الوظيفية للمهندسين!
لذلك، فإن على المدرب المتألق أن يسأل عن طبيعة المتدربين وأعمارهم، ومستواهم الثقافي، قبل اللقاء بهم.
وإن من أنواع المهمات التي يحرص المدرب المتألق، كذلك، على تنفيذها في أثناء الدورة: التعرف إلى المتدربين فرداً فرداً، وإدخال المرح والتسلية في نفوسهم، ومنحهم فترات للراحة، وتناول شيء من الشراب والطعام في أثنائها، وعدم خروجه من قاعة التدريب مبكراً؛ حتى يكون حاضراً بينهم، من أجل النقاش والحوار.
في حين أن من المهمات التي يحرص على تنفيذها بعد الدورة: الثناء على المتميزين من المتدربين، ووعدهم بمنحهم جوائز تقديرية، وتذكيرهم بأهم المبادئ التي وردت في الدورة، وتزويدهم بمادة تزيد من معرفتهم، وإحاطتهم علماً بآخر المستجدات في موضوع الدورة.
ونستخلص من ذلك؛ أن المدرب المتألق يحرص على ربط المتدربين به من خلال الاهتمام بهم قبل الدورة التدريبية، وفي أثنائها، وبعد الانتهاء منها.
4- الالتزام والانضباطية:
ينبغي أن تصل سمة الالتزام والانضباطية إلى حدها الأعلى لدى المدرب المتألق، فيكون قدوة للمتدربين في الالتزام والانضباطية؛ من حيث الالتزام بالوقت، وتنفيذ المتطلبات، وتغطية المادة، ومكافأة المتميزين من المتدربين بشهادات التقدير والجوائز.
ينبغي أن تصل سمة الالتزام والانضباطية إلى حدها الأعلى لدى المدرب المتألق ليكون قدوة
فهو أول من يصل إلى قاعة التدريب، وذلك قبل جميع المتدربين، وليعلم أن هناك متدربين يصل بعضهم إلى قاعة التدريب قبل بدء الدورة بساعة من الزمن! فكن موجوداً في قاعة التدريب قبل بدء الدورة بساعة من الزمن؛ لعدة أسباب وفوائد، منها:
– التأكد من جاهزية قاعة التدريب وتوفر المسلاط الضوئي (البروجكتور)، وشاشة العرض، واللوح الورقي، والسبورة، والأقلام الملونة، والإضاءة المناسبة، والتأكد من ترتيب المقاعد، وصف المناضد، ومواقع القوابس الكهربائية، وتوفر الوصلات الكهربائية، ومنابع شبكة الإنترنت.
– التأكد من جاهزية الأشربة، والأطعمة، وسلات المهملات.
– التأكد من ضبط أجهزة الحاسوب، ومؤشرات الليزر، وفاعلية الفأرة، والأجهزة السمعية والبصرية.
– التأكد من توزيع المادة التدريبية على المناضد، وتوزيع المواد المساندة لها.
– الحرص على استقبال الطيور المبكرة من المتدربين، والتعرف إليهم، والاتفاق معهم على أمور تدعم الدورة التدريبية.
فالمدرب المتألق قدوة في الالتزام والانضباط، وليعلم أنه لو لم يستفد المتدربون من الدورة سوى الالتزام والانضباط في حياتهم الخاصة وحياتهم العملية لكفى.
ولنضرب مثالاً على ذلك بهذه القصة: في إحدى الدورات التدريبية للحرس الوطني الكويتي حول أسرار القيادة الفعالة، وكانت بإشراف خدمة المجتمع والتعليم المستمر بجامعة الكويت، وقد عقدت بتاريخ 3 ديسمبر 2023م، جعلت آخر نصف ساعة من الدورة خالصة للمتدربين يجيبون خلالها عن سؤال واحد، وهو: اذكر لي فائدة واحدة استفدتها من الدورة، وتريد تطبيقها في حياتك العملية.
كنت أعتقد أنهم سوف يذكرون لي بعض المبادئ التي ذكرتها لهم حول أسرار القيادة الفعالة، فإذا بهم يذكرون إعجابهم بالنمط الذي تم فيه إدارة الدورة.
ذكروا لي إعجابهم من عدم فرض رأيي عليهم، وتركي مساحة للحوار والنقاش معهم، وعدم ضجرهم في أثناء الدورة، واستمرار الحيوية والطاقة والنشاط والحماسة طوال فترة انعقاد الدورة، وعدم طرحي للنظريات وحشو الكلام في أثناء الدورة، وتركيزي على التمارين والمسابقات ولعب الأدوار فيها، وعدم إضاعتي لأوقاتهم في أثناء الدورة، وضبطي للوقت ابتداء وانتهاء في جميع أيام الدورة.