من خلال فهم النصوص الشرعية ومتابعة الأحداث اليومية على أرض الواقع الفلسطيني والعربي والإسلامي والعالمي أستطيع أن أقول: إن من الواجب الشرعي على المسلمين جميعا أفراداً ومنظمات وجماعات وحكومات أن يغيثوا الشعب الفلسطيني ومن الأدلة على ذلك ما يلي:
1- ورد الأمر بالإنفاق والحث عليه وذم الشح والبخل في القرآن الكريم 133 موضعاً، منها 23 موضعاً من الزكاة في القرآن المكي والمدني، ومائة مرة عن الإنفاق بشكل عام بما يوجب بذل المال (من الزكاة أو غيرها) لكفاية الحاجات العامة والخاصة، وهو وزن ثقيل في الحث على الإنفاق
2- أن أكبر مجال للإنفاق في القرآن الكريم هو كفاية المحتاجين، حيث ورد الحث على ذلك في 21 موضعاً في مصارف الإنفاق، بينما ورد الحث على الإنفاق للجهاد في سبيل الله في 14 موضعاً، وأهل فلسطين ينطبق عليهم الأمران معاً.
30 دليلاً
3- في دراستي عن سلطة ولي الأمر في فرض الوظائف المالية (الضرائب) (ص 180 – 221) قدمت أكثر من ثلاثين دليلاً من القرآن والسُنَّة على أن الواجب في المال يتجاوز الزكاة إلى حقوق أخرى تكفي لكفاية جميع الحاجات للمسلمين ولغيرهم ممن يعيشون في ظل دولة الإسلام.
4- القواعد الشرعية توجب إغاثة إخواننا الفلسطينيين على كل مسلم، ومن هذه القواعد «الضرر يزال»، و«يُتحمل الضرر الخاص لأجل الضرر العام»، و«الضرر الأشد يزال بالأخف»، و«الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة»، و«ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب»، و«الحاجي والتحسيني خادم للضرورة»، و«اختلال الضروري يخل بالحاجي والتحسيني»، و«الشريكان في عين مال منفعة إذا كانا محتاجين إلى دفع مضرة أو إبقاء منفعة أُجبر أحدهما على موافقة الآخر».
هذه القواعد الشرعية التي ذكر السيوطي أو ابن نجيم في الأشباه والنظائر، أو الشاطبي في الموافقات أو ابن رجب في القواعد الفقهية، توجب سرعة الإغاثة لإخواننا؛ لأن هناك ضرراً محققاً وهو إخفاق المشروع الإسلامي مما يشيع وينشر اليأس في الأمة، إضافة إلى وجوب تتويج جهاد إخواننا في فلسطين بوقفة مالية ومعنوية قوية تُعذر الأمة أمام ربها عزوجل.
إجماع على وجوب البذل
5- يتفق علماء الأمة في جميع المذاهب الفقهية قاطبة قديماً وحديثاً على وجوب بذل الفضل لكل مضطر ومحتاج، وقد حكى القرطبي في تفسيره (1/ 25) اتفاق علماء الأمة على ذلك، ويستطيع كل مسلم مراجعة ذلك في المذهب الحنفي لدى السرخسي في المبسوط (2924) أو لدى الكاساني في بدائع الصنائع (6/ 188)، ولدى المذهب المالكي في الموطأ لمالك (ص 71)، ولدى الباجي في المنتقى (6/ 39)، وفي القواعد لابن مكي (2/ 21)، ولدى الشاطبي في الموافقات (1/ 97)، وفي المذهب الشافعي لدي الجويني في الغياثي فصل المشرفين على الضياع فقرات (42 – 337)، والماوردي في الأحكام السلطانية (ص 183)، والنووي في المجموع (9/ 2) والشربيني في مغني المحتاج (4/ 308)، ولدى المذهب الحنبلي في الأحكام السلطانية للفراء (220)، والمغني لابن قدامة (8/ 102) (11/ 343)، ولدى مذهب الزيدية في “متن الأزهار” لابن المرتضى (2/ 554)، والعجيب أن هناك عبارات صريحة لكثير من هؤلاء الفقهاء أن من حق الجوعى والمرضى وذوي الحاجات أن يقاتلوا حرمهم من حقهم في بذل الفضل وإقامة العدل في البذل، وقد أشار إلى هذا شيخنا القرضاوي في برنامج “الشريعة والحياة” الذي تبثه قناة الجزيرة في حلقة خاصة أول أبريل 2006 عن «حقوق الجياع».
6- وردت عبارات صريحة لكثير من فقهاء الأمة توجب على آحاد الأمة أن يقوموا بواجبهم نحو ذوي الحاجات من إخوانهم ولو زاد ذلك على الزكاة ومن ذلك:
أ- ذكر ابن حزم تعليقاً على الحديث الذي رواه البخاري بسنده عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من لا يرحم لا يرحم»، قال: «ومن كان على فضلة ورأى المسلم أخاه جائعاً عرياناً، فلم يغثه فما رحمه بلا شك» ( المحلى 6/ 157).
ب- ذكر ابن سعد في الطبقات الكبرى (3/ 316) (2/ 216) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «لو لم أجد للناس من المال ما يسعهم إلا أن أدخل على أهل كل بيت عدتهم فيقاسمونهم أنصاف بطونهم حتى يأتي الله بالحيا فعلت؛ لأن الناس لن يهلكوا على أنصاف بطونهم».
جـ- ذكر الماوردي في الأحكام السلطانية (182) أن عمر بن الخطاب أغرم قوماً دية رجل مات عطشاً لأنه طلب منهم فضل الماء فلم يعطوه حتى هلك.
د- أورد الهندي في كنز العمال رقم (15823) وابن حزم في المحلي (6/158) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قوله: «إن الله عز وجل فرض للفقراء في مال الأغنياء قدر ما يسعهم، فإن منعوهم حتى يجوعوا أو يجهدوا حاسبهم الله حساباً شديداً وعذبهم عذاباً نكراً».
هـ- يقول الجويني في كتابه الغياّثي (ف 339): إذا هلك فقير واحد والأغنياء يعلمون به أثموا جميعاً، ويقول في موضع آخر: إذا هلك فقير واحد بين ظهراني أغنياء أثموا جميعاً من عند آخرهم، وكان الله طليبهم وحسيبهم يوم القيامة.
وجوب قتال المحتل
و- أورد ابن تغري بردي في النجوم الزاهرة (7/ 72)، وابن كثير في البداية النهاية (13/ 215) ما أعلنه العز بن عبد سلام أنه إذا طرق العدو بلاد الإسلام وجب على العالم قتالهم، وجاز أخذ كل ما يعين على جهادهم، وأشار إلى وجوب بيع الحوائص الذهبية والآلات الفاخرة لدى الأمراء حتى يقوموا بحاجة المسلمين في الجهاد.
ز- هناك اتفاق أيضاً بين العلماء المعاصرين على وجوب بذل المال للمحتاجين سواء من الزكاة أو ما فوق الزكاة، منهم الشيخ بهي الخولي في كتاب «الثروة في ظل الإسلام» (ص 913)، ود. عبد السلام العبادي في كتاب «الملكية في الشريعة الإسلامية» (2/ 278)، وأستاذي د. محمد البلتاجي رحمه الله تعالى في كتابه «الملكية الفردية في النظام الاقتصادي الإسلامي» (ص 259)، ود. يوسف إبراهيم يوسف في كتاب «النفقات العامة في الإسلام» (ص 112)، وأستاذنا الشيخ القرضاوي في «فقه الزكاة» (2/ 961 – 992).
من هذه الأدلة الكثيرة تتقرر الأحكام التالية:
1- يجب على كل مسلم قادر على بذل الزكاة أن يدفع جزءاً منها أو من أصل ماله لإخوانه في فلسطين لما يوجد من أبعاد سياسية وإنسانية في إذلال شعب احتلت أرضه وأرضنا المقدسة وديست كرامة الأمة من خلال هذا العدوان والحصار والتشريد لشعب بأكمله.
2- لو قام أغنياء الأمة بأداء الزكاة أو بعضها لإنقاذ الوضع الموجود حتى من زكوات السنوات القادمة لكان ذلك إسعافاً جيداً ومستحباً، وقد أجاز تقديم الزكاة الحسن وسعيد بن جبير والزهري والأوزاعي وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد؛ وذلك لما رواه مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد رخص للعباس تعجيل صدقة عامين وقد ناقش هذه القضية باستفاضة أستاذنا الشيخ القرضاوي في كتاب «فقه الزكاة» (2/ 821 – 837).
فقه زكاة الفطر
3- لو استصحبنا فقه زكاة الفطر التي تجب على كل مسلم غنياً أو فقيراً كبيراً أو صغيراً، رجلاً أو امرأة، فقلنا في هذه الظروف يجب أن يبذل كل مسلم على وجه الأرض شيئاً يقيم به حاجة إخوانه الذين حاصرهم أعداء الإسلام بكل سبيل لما كان ذلك بعيداً.
4- إذا كان خمسة من مشركي قريش قد سعوا في نقض صحيفة مقاطعة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كما ذكر ابن القيم في زاد المعاد (2/ 19)، وابن هشام في السيرة (1/ 25)، ألا يوجد في الأمة المسلمة مثل هؤلاء الخمسة (هشام بن عمرو، والمطعم بن عدي، وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، وزهير بن أمية)؟!
ألا يوجد مثلهم من ذوي المروءات من كبار الأغنياء والوجهاء السياسيين ممن يسعى لتقطيع وتمزيق هذا الحصار على الشعب الفلسطيني؟!
5- إذا كانت مروءة العروبة قد دفعت مشركي بني هاشم وبني المطلب أن يقفوا في خندق واحد مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في مساندتهم والدخول معهم في هذه المقاطعة كما أورد البخاري -راجع فتح الباري (3/ 529)- حتى كانت تسمع أصوات النساء والأطفال والصبيان يتضاغون من الجوع.
ألا يجتمع الصف الفلسطيني المسلم والمسيحي في منظمة فتح وغيرها من المنظمات والجماعات ليكونوا جميعاً صفاً واحداً تحت شعار واحد “الجوع ولا الركوع” وسيأتي الله بالفرج إن شاء الله كما حدث في إنهاء المقاطعة الاقتصادية للرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه، وجاء بعده مباشرة الفرج والتمكين.
إستراتيجية الاعتماد على النفس
إن الحصار الذي يفرضه النظام العالي الجديد بوجهه الكالح يوجب على حكومة فلسطين خاصة وحكومات الدول العربية والإسلامية عامة أن يكون هناك خطان متوازیان:
1- خط إسعافي للواقع الآن في حل مشكلة اليوم في دفع رواتب العاملين والكادحين في الدولة، وكفاية هذا الشعب، وأن يكون أعضاء الحكومة هم آخر الناس -كما يفعلون اليوم- أخذاً لرواتبهم اقتداء بسيدنا عمر بن الخطاب في عام الرمادة.
وعملا بقاعدة «الزعيم غارم»، وليكون هناك مثال حي على أن السلطة ليست غصباً للمال، ونهباً للقمة العيش من يد كل محتاج، بل هي تضحية لراحة الناس وكفالتهم.
2- خط وقائي وهو الاستغناء والاعتماد على النفس في اقتصاد طويل المدى، إنتاجي لا استهلاكي فقط، في ضوء النصوص الكثيرة أن «ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده» (البخاري، 1930).
وأن سيادة أي حكومة في العالم تتوقف على الحكمة التي ذكرها الشيخ الشعراوي رحمه الله: «من لم يكن طعامه من فأسه، فلن يكون قراره من رأسه»، وأن نرفع الشعار الحر: «نأكل مما نزرع ونليس مما نصنع»، والحق أن هذا التحدي صعب لكنه ليس مستحيلاً، يحتاج إلى همم الرجال وصبر الأبطال، وكرامة الأبرار، ولنا أن ندرس التجربة الماليزية في النقلة النوعية في الاقتصاد والإنتاج، وأن نسعى إلى سوق إسلامية مشتركة، وأن ندرس المشروع الذي كان يطمح إليه نجم الدين أربكان عندما كان رئيساً لوزراء تركيا في تجميع الطاقات الإنتاجية الإسلامية لصناعة اقتصاد إسلامي حر.