على مدار ما يزيد على 110 أيام وغزة تقاوم، بكل بطولة وبسالة لم تكن متوقعة، لا من مؤيديها وأنصارها، ولا من خصومها وأعدائها، على حد سواء، خاصة أنها كانت في حصار ثقيل دام 17 عاماً، خضعت فيها بالإضافة للحصار لمراقبة شديدة، من البر والجو والبحر، أحصيت فيها عليهم الأنفاس، وظن العدو أن القوم قد أرهقوا تماماً، ونالت منهم هذه السنون العجاف، وأوصلتهم إلى حافة اليأس والقنوط، وحطمت معنوياتهم، وقيدت قدراتهم، وحدّت من إمكاناتهم، وأنهم أصبحوا لقمة سائغة للانقضاض عليهم، والتخلص منهم وللأبد.
فجاء بعدها العدو الغاصب، بجيوشه الجرارة، وأسلحته المدمرة، وبدعم من أعتى القوى العالمية، كي يسدل الستارة على آخر فصول المقاومة في غزة، وبشكل سريع، وخلال فترة إن طالت لا تتجاوز حدود الشهر، على أقصى التوقعات، وأكثرها تشاؤماً.
غير أنهم صدموا بما وجدوا، وتجاوزتهم حدود الصدمة لتصدم العالم الظالم كله، الذي تآمر عليهم، ومد يد العون والمساعدة لهذا العدوان، الذي تجاوز كل الحدود، ليصل حد الإبادة البشرية، تحت سمع وبصر هذا العالم، بعد أن عجز عن النيل من المقاومة ورجالها، وانتقاماً منها، أفرطوا في القتل والدمار لكل ما هو متحرك وغير متحرك على أرض غزة العزة.
لقد أثبتت المقاومة الباسلة في غزة وجودها، وأثخنت في هذا العدو، قتلاً وتدميراً لمعداته، وأسراً لقواته، نعم، لقد أخذت لهذه المعركة غير المتكافئة عدتها، واستعدت لها الاستعداد اللازم، ببذل كل ما استطاعت، من جهد وفكر وتخطيط، حتى استنفدت طاقتها ووسعها، امتثالاً لأمر الله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) (الأنفال: 60).
لاحظ أن الإعداد هنا ليس من أجل النصر، بل من أجل الإرهاب فقط، وذلك أن النصر من عند الله وحده، ولا شأن للأسباب المادية من عدد وعدة في النصر، بل ذلك كله مؤشر على جدية وصدق القوم، في دخولهم ميادين الجهاد، فإن صدقوا تولاهم الله بعنايته ونصره، وهذا حتى لا يكون للجانب المادي، وتفوق عدونا فيه، حجة لنا على ترك الجهاد، فليس لكم معشر المؤمنين أن تغادروا ميادين الجهاد، خوفاً من العدو الذي فاقكم في كل شيء، فأنتم الغالبون إن صدقتم في الأخذ بالأسباب المادية، وإن كانت متواضعة، في كل شيء، لأنها ليست هي السبب في نصركم، واقرؤوا إن شئتم قول الله تعالى: (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (آل عمران: 126).
فلما علم الله من مقاومة غزة ذلك كان معهم بعونه ونصره ورحمته وعظمته وتثبيته، فرأينا الله -جلت قدرته- في رميهم ونزالهم وقتالهم وثباتهم وصبرهم وعطائهم ما لم يكن في حسبان مقاومة غزة، التي تحمل العبء كاملاً عن الأمتين العربية والإسلامية، في الدفاع عن حرمة المسجد الأقصى، أن يبلغ العجز في الأمتين، مبلغاً عظيماً، بحيث لا تقوى معه على أن تقوم بواجب تقديم المساعدة للمدنيين، فأبقت ظهر المقاومة مكشوفاً، لم يخلفها أحد في أهلها وأطفالها، فلم تقو أمة المليارين على إدخال المعونات المادية والعينية من أدوية وطعام ولباس وخيام، يسد جوعهم، ويستر عوراتهم، ويقيهم برودة الطقس وتقلباته.
نعم لم تطلب المقاومة الباسلة من أمتهم غير هذا الدور المتواضع، الذي يناط عادة بمن ضعفت بنيته، وقلت حيلته، فلا طاقة لهم بمقارعة الأعداء، فالمقاومة لم تطمح من أمتها، وأنظمتها الحاكمة أن تحرك جيوشها الجرارة، التي تنفق على تسليحها وتدريبها المليارات من الدولارات، المقاومة لم ترد إحراج الأنظمة في مثل هذه المطالب، وقدرت أن لها أسبابها الواهية، وحساباتها المتهافتة، أمام ما يرتكب من جرائم حرب إبادة، لو أن القوم وحدوا صفوفهم، واتفقوا على كلمة واحدة، لما تجرأ هذا الكيان المحتل على هذا الصنيع الشنيع.
نعم، كل ما طلبته المقاومة الباسلة، في غزة، أن تعمل الأمة بشعوبها وأنظمتها، على أن تنقذ أطفال غزة ونساءها وشيوخها من براثن الجوع والمرض فقط لا غير، فلا يجتمع عليهم الموت جوعاً والموت قصفاً ودماراً.
غير أنها اكتشفت أن ظهرها أضعف بكثير من أن يحتمل حتى مثل هذا العبء، عبء الإغاثة، عبء المساعدة، عبء فتح المعابر، عبء إدخال الماء النظيف، عبء تضميد جراح الأطفال النازفة، عبء تطبيب المرضى، في الوقت الذي تتصدى فيه قطعان الصهاينة لمنع مرور سيارات المساعدات الإنسانية، وإرجاعها، لا تقوى أمة لا إله إلا الله، أمة رسول الله، أمة الجهاد والفتوحات، أن توصل وتحمي مساعداتها التي لا تكاد تسد رمقاً، ولا تفي بأقل القليل من الحاجة!
إن الضربة التي تلقتها المقاومة اليوم، من انكشاف ظهرها، أشد وطأة عليها من وطأة عدوها، ومن قصف طيرانه، وضربات دباباته، وشدة تدميره، وبشاعة جرائمه.
على الصعيد الشخصي، كنت وما زلت أتمنى أن أكذب ما يقوله قيادات الكيان الغاصب، عن بعض أنظمتنا العربية، بكشف ما يقولونه لهم في الكواليس، وفي اللقاءات السرية، من تأييدهم في عدوانهم على غزة، ومطالبتهم بعدم التوقف عن قتالهم، أو إنهاء عدوانهم حتى يتم القضاء على المقاومة تماماً، لكن وللأسف الشديد إن ما يحدث في الواقع من مواقف هزيلة ومؤلمة يدعونا لأن نصدق ما يدعونه.
وإن كان هذا حقاً، فلا أمل بتحقيق النصر كاملاً، وظهر المقاومة مكشوف، وظهر المقاومة مشرع للطعنات من الخلف، وظهر المقاومة قد أثخنته جراح القريب والصديق!
والأمر هكذا، فما يقع على عاتق الشعوب اليوم كبير وكبير جداً، فما كان لهذه الأنظمة أن تكشف ظهر المقاومة في غزة، وتدير لها ظهرها، وتبالغ في خذلانها، لو علمت أنها تحكم شعوباً حية، تنبض قلوبها بمحبة الله ورسوله، ومستعدة لمحاسبتها عند خطئها، ومستعدة لتقويمها عند اعوجاجها، ومستعدة لخلعها عند تماديها في غيها، وإن كلفها ذلك بعض الأثمان، فلن تستقيم لهذه الأمة حياة بلا ثمن تدفعه، وتضحيات تقدمها، وإلا فإن الجميع شركاء في هذا الخذلان، شركاء في كشف ظهر المقاومة!