يجب أن يُفهَم خطر الغزو الثقافي الصهيوني للمنطقة العربية بمعنى أوسع لا يقتصر على خطره على الفكر العربي؛ أي الثقافة بالمعنى الضيق، بل يشمل أيضاً الخطر الذي يواجهه نمط الحياة والسلوك والقيم والعقائد وطبيعة الولاء.. إلخ.
والخطر الثقافي، بهذا المعنى الواسع، لا يعني الخطر الذي يمثله غزو حضارة أو ثقافة متنوعة لحضارة ضعيفة أو دنيا، وإنما يعني تهديد ثقافة لثقافة أخرى بالاضمحلال أو الزوال لمجرد أن الأولى يحملها شعب متفوق عسكرياً أو تكنولوجياً دون أن تكون ثقافته بالضرورة أكثر استحقاقاً للبقاء أو أشد جدارة، والتاريخ يعرف هذين النوعين من الغزو الثقافي.
إن هذا الخطر يشترط لتَحقُّقه ابتداءً، وقبل كل شيء، هزيمة نفسية من جانب العرب، وسيادة الاعتقاد لديهم بأن سبب التفوق العسكري الذي أحرزته «إسرائيل» عليهم هو تفوُّق قيمي وأخلاقي وحضاري وثقافي، ومن ثم يظهر بين العرب من المفكرين والكُتَّاب من يصدقه عدد متزايد من العرب يدعون إلى احتذاء «إسرائيل» ليس فقط في تطبيق التكنولوجيا الحديثة، بل فيما يتعدى ذلك كالإشارة إلى أسلوبهم في التنظيم والإدارة وإلى نظامهم السياسي وعلاقاتهم وقيمهم الاجتماعية ونمط سلوكهم، وقد بدأت مثل هذه الدعوة تعبِّر عن نفسها بأساليب مختلفة، على استحياء أولاً في أعقاب هزيمة العرب عام 1967م، ثم زادت جرأة في أعقاب زيارة رئيس مصر السابق للقدس عام 1977م، وتوقيع اتفاقية «كامب ديفيد» عام 1979م.
ومن الكُتَّاب العرب من يعبِّر عن نفس الموقف بطريقة غير مباشرة عن طريق التأكيد على أن تكرار هزائم العرب في مواجهة «إسرائيل» إنما يرجع إلى تَخلُّفهم عن السير في ركاب الحضارة الغربية بينما لحقت «إسرائيل» بها، دون أن يميِّز التمييز الكافي بين الجوانب الإنسانية البحتة في التقدم الغربي والجوانب الثقافية التي تمثل إفرازاً خاصاً لثقافة بعينها.
وبصرف النظر عن توالي هزائم العرب العسكرية على يد «إسرائيل» منذ عام 1948م، فإن الخطر الثقافي الصهيوني قد أتيحت له الآن قناة جديدة تتمثل في قبول مصر الانفتاح الاقتصادي والثقافي على «إسرائيل» منذ اتفاقية «كامب ديفيد» عام 1979م، فالسلع «الإسرائيلية» سوف تحمل في طياتها نمطاً للاستغلال وأسلوباً للحياة لم يختره المصري أو العربي بمحض إرادته أو بمقتضى تطوُّره الاقتصادي والاجتماعي الطبيعي، وسوف يتكرر، عن طريق «إسرائيل»، غزو أنماط الاستهلاك الغربية للمنطقة العربية، كما سوف يؤدي التعاون بين مصر و«إسرائيل» في مجالات الإعلام (إذا قُدِّر له أن يصل إلى المدى الذي تأمله «إسرائيل») إلى طبع وسائل الإعلام المصرية، ثم العربية، بالطابع التجاري الاستهلاكي الذي يكرس تغريب الحياة الاجتماعية.
ومن أشد الأخطار التي يمثلها هذا الغزو، تهديده للمشروع الحضاري العربي الذي شرعت مصر في قيادته في الستينيات ولم تتمه، والذي يقوم على اعتبار الوطن العربي وحدة سياسية وثقافية، وكان يمكن أن يؤدي في النهاية إلى تبلور موقف حضاري مستقل للعرب، ذلك أن من المستحيل أن نتصور أن يتم تكامل بين بلد عربي أو مجموعة من الدول العربية و«إسرائيل» مع وجود تكامل اقتصادي وسياسي بين الدول العربية إلا إن كان هذا التكامل الأخير في خدمة المصالح الاقتصادية والسياسية للدول الصناعية أو لـ«إسرائيل» نفسها.
إن ما ترتب على استعمار بريطانيا أو فرنسا في القرن الماضي، لدول صغيرة مجزأة في غربي أفريقيا مثلاً، من تكامل دولة كغانا أو نيجيريا مع الاقتصاد البريطاني، ودولة كساحل العاج أو غينيا مع الاقتصاد الفرنسي، كان ذلك وحده كافياً لعزل كل من هذه الدول عن الأخرى ولمنع قيام أي تكامل اقتصادي بين هذه الدول حتى الخاضع منها لنفس الدولة الغربية.
كذلك، فإن الانفتاح الثقافي لإحدى الدول العربية، كمصر، على «إسرائيل»، من شأنه أن يخلق عقبات تتراكم في وجه التكامل الثقافي العربي، كالانحسار التدريجي للتوجه العربي للتعليم، أو كالإهمال المتعمد لتعليم اللغة العربية والتاريخ العربي، بل لقواعد الدين تحت شعار الانفتاح على العالم المتحضر ومجاراة متطلبات العصر. وليس مثال دول المغرب العربي الثلاث بعيداً عنا بما ترتَّب على إخضاعها لتكامل اقتصادي وثقافي مع فرنسا من صعوبات أمام العودة بهذه البلاد إلى التكامل مع بقية الدول العربية أو حتى فيما بينها.
وإذا قُدِّر لمثل هذا الاتجاه أن ينجح، فإن أقل الاحتمالات سوءاً أن يطرح العرب في النهاية أي محاولة لتقديم أي مساهمة فريدة في الحضارة الإنسانية، وأن يتحولوا إلى مقلدين ولو تعدَّى التقليد ميدان الاستهلاك إلى ميدان الانفتاح، وكذلك أن يفقد العرب إلى الأبد الفرصة التي مازالت متاحة لهم لاستلهام تراثهم الحي في بناء نمط جديد للحياة يقوم على فلسفة ونظرة متميزة إلى الإله والكون والطبيعة والعلاقات الاجتماعية وعلاقة الفرد بالدولة والمدينة بالريف وإلى ابتداع مدارس خاصة بهم في العلوم الاجتماعية والتنظيم الاقتصادي ونمط الإنتاج والتقدم المادي.
أما القول بأن «إسرائيل» ليست إلا بلداً صغيراً لا يمكن أن تشكِّل خطراً ثقافياً أو اقتصادياً على المنطقة العربية بالعدد الكبير لسكانها، فإنه قول يكفي لإهماله أن نتذكر كيف حكمت إنجلترا في القرن الماضي، وهي الجزيرة الصغيرة، إمبراطورية لا تغرب عنها الشمس، وأثرت تأثيراً بالغاً في التوجه الثقافي للدول الخاضعة لها.
____________________
المصدر: كتاب «موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية».