بين ليلة وضحاها، أصبحت دولة جنوب أفريقيا محل أنظار العالم وحديث الساعة بعد خطوة جريئة لم يسبقها بها أحد، حين أعلنت جنوب أفريقيا، في 29 ديسمبر 2023م، عن رفع دعوى قضائية أمام محكمة العدل الدولية، تتهم فيها «إسرائيل» بارتكاب «جرائم إبادة جماعية» في قطاع غزة الذي يتعرض لحرب شرسة على مدار عدة أشهر لتخوض منفردة معركة قانونية ضد الكيان المحتل، في حين أنه لم تجرؤ أي دولة عربية أو إسلامية على فعلها.
والحقيقة أنها لم تكن هذه هي الخطوة الأولى، فلقد أعلنت جنوب أفريقيا، في 21 نوفمبر الماضي، عن تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع الكيان المحتل، احتجاجاً على هجماتها على غزة، وسبق ذلك استدعاؤها سفير «تل أبيب» لديها، للتشاور بشأن الهجمات على القطاع، كما أدان رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا الهجوم «الإسرائيلي» على غزة منذ البداية، وهذا موقف مشرف يستحق الثناء والتقدير لدولة جنوب أفريقيا.
لكن، لماذا تخوض جنوب أفريقيا تلك المعركة؟!
وهنا يأتي السؤال الذي يطرح نفسه ويشغل أذهان الكثير منا: لماذا تخوض جنوب أفريقيا هذه المعركة الخطرة حتى وإن كانت معركة قانونية وليست عسكرية بالمفهوم الدارج؟! خاصة وأن جنوب أفريقيا دولة لا يجمعها بـ«إسرائيل» حدود جغرافية لا من قريب أو بعيد، وهي دولة صناعية غربية وإن كانت في أفريقيا، وليست ذات مصلحة مباشرة، كما هي الحال فيما لو فعلت ذلك دولة عربية مثل مصر، أو الأردن، أو سورية، أو السلطة الفلسطينية مثلًا.
مثل هذه المعطيات هي مؤشرات مهمة لتأكيد مصداقية دولة جنوب أفريقيا في سعيها لنصرة غزة والقضية الفلسطينية.. لكن لماذا؟! وهي تعرف جيداً أن معاداة الصهاينة بخوضها تلك المعركة القانونية ليس بالأمر اليسير، بالتأكيد سيفتح ذلك عليها باباً من أبواب الجحيم من قبل الصهاينة وحلفائها الغربيين!
وللإجابة عن هذا التساؤل والوقوف على الدوافع الحقيقية التي دعت دولة جنوب أفريقيا إلى خوض تلك المعركة، سنعود بالزمن للوراء بضعة عقود كي تتضح لنا الصورة وتزول الدهشة ويستقر الأمر في الأذهان.
جذور القصة
منذ مطلع القرن العشرين، نشأت الكثير من الحركات التحررية في القارة الأفريقية، ومن بينها حركة التحرر في جنوب أفريقيا التي ظلت تناهض ضد السياسة الاستعمارية بأشكالها المختلفة لإنكارها جميع الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية للسكان الأصليين لجنوب أفريقيا، مما ساهم في بروز شخصيات مختلفة خُلدت أسماؤها في التاريخ، وكان لها الأثر الفعال في النضال التحرري بأفريقيا.
كانت تجربة جنوب أفريقيا مثالاً صارخاً لسياسة الفصل العنصري البغيض الذي عرف باسم «Apartheid»، حيث حكمت أقلية بيضاء، أغلبية غير بيضاء منذ أن وطئت قدم الرجل الأبيض أرض جنوب أفريقيا، فكانت جنة للأقلية، وجحيماً على الأغلبية، واستمر الأفريقيون في نضالهم السلمي الدستوري ضد سياسات الفصل العنصري، يستعطفون تارة، ويحتجون تارة أخرى، ويأملون تارة، ولما بحت أصواتهم، ارتفعت أصوات غاضبة في الفترة ما بين عام 1948م حتى عام 1960م، عندما أخذوا يتحدون علانية ضد نظام التفرقة العنصرية عبر المقاومة السلمية الإيجابية بمختلف وسائلها كالتجمهر أمام أقسام الشرطة، والخروج إلى الشارع دون أخذ التصاريح الخاصة بهم.
وقد برز دور المناضل نيلسون مانديلا في تلك الفترة، لكن استمر البيض في عزلهم الأفريقيين وزادوا من استعمال القسوة والعنف، وراح المتحدثون باسم حكومة جنوب أفريقيا العنصرية يلقون بالتصريحات التي يعلنون فيها أن البيض في جنوب أفريقيا لا يوافقون على اشتراك الرجل الأسود في حكم البلاد، وأن القوانين التي أصدروها إنما هي لتنظيم العلاقة بين البيض والسود على أساس السيد والخادم؛ بمعنى أن السلطة في يد الرجل الأبيض، أو كما قال رئيس وزراء جنوب أفريقيا إسترايدن: «يجب أن يبقى الرجل الأبيض سيداً على الدوام»!
لكن الأيام كانت تحمل في طياتها لاحقاً ملامح لمرحلة جديدة في العلاقة بين الرجل الأبيض والأسود، لنشهد أطول وأعنف كفاح في تاريخ أفريقيا، عاشت جنوب أفريقيا أطول تجربة نظام فصل عنصري استمرّ لمدة 46 عامًا، بدأ عام 1948 وانتهى عام 1994م، وذلك بعد عقود من الكفاح والمقاومة.
إن تجربة جنوب أفريقيا تعد من أنجح تجارب التحرر والاستقلال، فلقد واجهت كثيراً من الصعوبات لتحقيق غايتها، وستظل تلك التجربة، وكفاح شعبها، محل الاحترام والدراسة والتحليل واستلهام الدروس والعبر منها، وهي بهذا المعنى تدرك تمامًا معنى أن يعيش الشعب الفلسطيني في غزة تحت نظام فصل عنصري أشد وطأة من الذي عانت منه جنوب أفريقيا عبر عقود.
المبادئ لا تتجزأ
بعد إطلاق سراح مانديلا بعد سجنه ما يقارب من ثلاثة عقود، وأصبح رئيساً لجنوب أفريقيا، قال: «نعلم جيداً أن حريتنا غير مكتملة من دون حرية الفلسطينيين»، وارتدى لاحقاً الوشاح الفلسطيني المعروف في حدث عام بالجزائر تضامناً منه مع الشعب الفلسطيني في مسيرته وكفاحه لنيل حريته كما فعل الشعب الجنوب أفريقي بقيادة زعيمه نيسليون مانديلا.
وقارن مانديلا وزعماء دولة جنوب أفريقيا من بعده القيود التي فرضها الكيان المحتل على الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية بمعاملة السود في جنوب أفريقيا خلال نظام الفصل العنصري، ووضعوا القضيتين على أنهما تتعلقان بشكل أساسي بالأشخاص المضطهدين في وطنهم.
لقد قدم الكيان المحتل أنظمة أسلحة لحكومة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وحافظ الكيان على علاقات عسكرية سرية معها حتى منتصف الثمانينيات، حتى بعد إدانته العلنية للفصل العنصري.
لذا، يمكن إرجاع دعم جنوب أفريقيا طويل الأمد للشعب الفلسطيني إلى زمن مانديلا، لقد استمر هذا التضامن لأكثر من 30 عامًا، وربما يفسر ذلك السبب الذي دفع جنوب أفريقيا إلى اتخاذ خطوة غير عادية بفتح قضية أمام المحكمة العليا للأمم المتحدة تتهم فيها الكيان المحتل بارتكاب جرائم إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في الحرب في غزة.
قد لا تتمتع جنوب أفريقيا بثقل دبلوماسي، لكن حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الحاكم، الذي كان يرأسه مانديلا ذات يوم، لا يزال حليفاً قوياً للفلسطينيين ومنتقداً شرساً للكيان المحتل، وها هو حفيد مانديلا؛ ماندلا مانديلا، يقول وهو مرتدياً الوشاح الفلسطيني المعروف، في تجمع مؤيد للفلسطينيين في كيب تاون، في أكتوبر 2023م، بعد أيام من عملية «طوفان الأقصى» وبدء العدوان «الإسرائيلي» على غزة: «لقد وقفنا إلى جانب الفلسطينيين وسنواصل الوقوف مع إخواننا وأخواتنا الفلسطينيين حتى النهاية».
إن الإنسانية لا تعرف الحدود الجغرافية، بل تتخطى الحدود الزمنية والأجناس العرقية، ويمكن توريثها لتنتقل عبر الأجيال البشرية المتعاقبة.