تجاوز العدوان «الإسرائيلي» على غزة 115 يوماً، ارتكب فيها قادة الحرب الصهيونية طيفاً واسعاً من الانتهاكات والجرائم والتدمير، الذي أدى للمرة الأولى في التاريخ إلى اتهام الكيان «الإسرائيلي» بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية في محكمة العدل الدولية، الأمر الذي يؤشر بجلاء على جريمة غير مسبوقة في التاريخ يرتكبها كيان يتسلح بالإجرام العتي والإرهاب الممنهج بغطاء دولي من التأييد والدعم حيناً، والصمت والتخاذل أحياناً أخرى.
وأمام الجريمة مكتملة الأركان التي يجابهها شعب غزة اليوم، تثور التساؤلات حول اليوم التالي، ليس من المنظور «الإسرائيلي» الراغب في حرب يعقبها يوم تال خال من المقاومة الفلسطينية بل الشعب الفلسطيني، ولكن يوماً يفيق فيه أهل غزة من أصوات الغارات والهجمات ليجدوا أنفسهم في ركام يملأ الأفق وغبار يخنق الأنفاس، ودمار هائل لم تعد الحياة معه ممكنة، وتنبعث إذ ذاك التساؤلات حول كيفية النهوض مرة أخرى بقطاع غزة ليصبح صالحاً للعيش، وبأي الطرق يمكن أن يتم تجاوز كل ذلك الدمار الذي تم بشكل ممنهج ووحشي.
تلك التساؤلات تدفع باتجاه البحث عن الدور الذي يجب أن يضطلع به المجتمع الدولي عامة والعربي والإسلامي خاصة بشأن إعادة إعمار غزة، وأي المهام الجسيمة تنتظر المجتمع المدني بكل أطيافه وهيئاته ومنظماته التي يجب أداؤها لإغاثة غزة من محنتها شديدة القتامة والسوء، التي امتدت إلى سائر أنحاء الحياة وأبسط مقوماتها لتطالها يد التدمير والخراب الدائم، بحيث أصبح اسم غزة مخلداً ضمن أعلى حملات تدمير المدن تاريخياً بجانب دريسدن ومدن أخرى تعرضت للقصف خلال الحرب العالمية الثانية.
غزة.. أطلال ورماد
منذ اليوم الأول للعدوان «الإسرائيلي» ولا ينفك قادة الكيان الإجرامي عن الإعلان عن تهجير أهالي غزة إلى دول مجاورة، وهو تحول فاضح يشير إلى ما وصل إليه قادة الكيان الصهيوني من إجرام عات، فلم تعد الخطط الصهيونية للسيطرة على الأراضي الفلسطينية من النهر إلى البحر مجرد سر يتم تداوله في الغرف المغلقة، بل أصبح مبدأً يتم التصريح به بشكل واضح بأن أهالي غزة يجب إجلاؤهم نهائياً إلى مكان آخر والتخلص منهم إلى الأبد.
وبمرور الوقت حطم صمود غزة أهالي ومقاومة المخطط «الإسرائيلي»، ناهيك عن رفض الدول العربية وبخاصة مصر للفكرة بشكل مطلق، وهو ما جعل المخطط «الإسرائيلي» يتحول شيئاً فشيئاً إلى فرض الأمر الواقع، وذلك عبر جعل قطاع غزة غير صالح للحياة، فحتى لو انتهت الحرب ولم يتم القضاء كلياً على المقاومة، فإن الكيان الإجرامي قد عمد إلى تدمير غزة تدميراً شاملاً أصبحت فيه أبسط مقومات الحياة شديدة الندرة وبعيدة المنال، فمن لم يمت بالغارات والقنابل سيموت جراء الجوع والعطش والمرض في نهاية المطاف.
وبحسب التقارير الإقليمية والدولية التي اهتمت بتبيان حجم الدمار في قطاع غزة يوم يمكن استقراء المؤشرات التالية:
– نزح 85% من سكان قطاع غزة البالغ عددهم 2.2 مليون نسمة من منازلهم.
– أسقطت «إسرائيل» 29 ألف قنبلة دمرت بها ما يقارب 70% من المنازل بالقطاع.
– دمر العدوان ما يوازي نصف طرق غزة مما عطل من حركة التنقل والمواصلات.
– تم تجريف وتلف حوالي 20% من الأراضي الزراعية بالقطاع، بما يشكل حوالي 34 كيلومتراً مربعاً من إجمالي الأراضي الزراعية التي تُقدر مساحتها بـ185 كيلومتراً مربعاً.
– تعرضت ما يزيد على 360 ألف وحدة سكنية للدمار سواء بشكل كلي أو جزئي، منها أكثر من 70 ألف وحدة تدمرت كلياً، بما يعني بأن نصف مليون شخص لم يعد لديهم منازل ليعودوا إليها مرة أخرى.
– أصبح معظم البنية التحتية للمياه والكهرباء والاتصالات والرعاية الصحية خارج الخدمة وغير قابل للإصلاح.
– بلغت إمدادات المياه في 30 ديسمبر 7% مما كانت عليه قبل نشوب الحرب.
– تم قصف ما يقرب من 342 مدرسة تعرضت للتدمير بشكل جزئي أو كلي.
– أغلقت أغلب مستشفيات قطاع غزة أبوابها نهائياً وخرجت عن الخدمة، ولم يتبق من 36 مستشفى هي مُجمل مستشفيات القطاع سوى 8 فقط لا تزال تُقدم خدمات محدودة للمرضى والجرحى والمصابين في ظروف شديدة الخطورة واستهداف قوي من جانب الكيان.
– يشير البنك الدولي إلى أنه بحلول 12 ديسمبر 2023م دمر الكيان 77% من المرافق الصحية، و72% من الخدمات البلدية مثل الحدائق والمحاكم والمكتبات، و68% من بنية الاتصالات، و76% من المواقع التجارية، بما في ذلك تدمير شبه كامل للمنطقة الصناعية في الشمال.
– نتيجة شح الخدمات الصحية وندرة المياه والغذاء وتدهور الأوضاع المعيشية، تتوقع منظمة الصحة العالمية أن يتجاوز عدد الوفيات نتيجة انتشار الأمراض أولئك الذين لقوا تحتفهم بسبب القصف.
– تشير التقارير إلى أن إعادة إعمار الوحدات السكنية المتضررة من العدوان فقط سيصل إلى 15 مليار دولار قابلة للزيادة يومياً طالما استمر العدوان، وهذه التكلفة تخص الوحدات السكنية فقط دون غيرها من المنشآت وبخلاف الأرضي الزراعية والبنية التحتية والمستشفيات والمدارس والجامعات والمساجد، بل حتى المقابر تم تدميرها وقصفها خلال العدوان.
المجتمع المدني والأدوار المأمولة
في ظل وضع كارثي غابت فيه أساسيات الحياة الإنسانية تحت قصف ممنهج لا يهدأ، ويستهدف سائر دعائم المجتمع من بنية تحتية ووحدات سكنية وأراض زراعية، يصبح لزاماً تدقيق النظر في الأدوار المأمولة والمستهدفة من المجتمع المدني لكي ينهض ببناء غزة من جديد في حال توافرت الإرادة السياسية لذلك ابتداء، ويكون حتمياً أن يضطلع المجتمع المدني العربي والدولي بمهمة تسليط الضوء على التدمير والإفساد الممنهج وفضح الممارسات الإجرامية لحشد الرأي العام العالمي من أجل إيقاف الإبادة الجماعية ثم العمل على تجاوز آثار العدوان بأقصى قدر ممكن من التعاون والتآزر العربي والإسلامي والدولي لتمويل إعادة الإعمار وملاحقة الكيان الغاصب دولياً من أجل دفع ثمن جرائمه.
من ناحية ثانية، يضطلع المجتمع المدني بدور مهم في الدعم الإغاثي العاجل لسكان القطاع العالقين بين الموت والحياة، والفاقدين لسائر مقومات العيش.
إن حجم الكارثة الإنسانية في غزة لا يزال مخفياً تحت ركام القصف المتواصل، ولا تزال آلام المرضى وأوجاع الجوعى خافتة تحت وقع الغارات والانفجارات، ولم يحط المجتمع الدولي بعد بالأبعاد شديدة التدهور في القطاع، التي ستظل آثارها تثقل كاهل من لم يزالوا على قيد الحياة من سكان غزة لسنوات طويلة وهو أمر يلقي بمزيد من الأعباء على كاهل المجتمع المدني الذي يتولى إدارة الشؤون الحياتية في ظل غياب الدولة وتغييبها المتعمد في القطاع، واستمرار سياسة تحويل المواطنين إلى نازحين يعتمدون كلياً على المنح والإغاثة.