سبق في المقال الأول الكلام عن اللحظة الأولى التي بدأ فيها الصراع الوجودي بين أولياء الله وأولياء الشيطان وقت نزول آدم عليه السلام إلى الأرض، وبقاء ذلك الصراع الذي ظهر في سير الأنبياء، ثم تعرضنا إلى خصائص الأمة المحمدية، والصراع الأول فيها وقت أن نُبِّي محمد صلى الله عليه وسلم، ثم ما صار بعد وفاته من ردة العرب، والآن نتعرض لما حدث بعد ذلك في سيرة أصحابه رضي الله عنهم، ثم في تاريخ الإسلام بعدهم.
فارس والروم والنقطة الفارقة في تاريخ الأمة
لم يكن شأن هذا الصراع شأن دولتين اختلفتا على فرض السلطان فتقاتلتا حتى أنهكت إحداهما الأخرى فتسلطت عليها، بل كان صراعًا وجوديًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فتلك الدولة الإسلامية الناشئة التي لم تعرف حضارة أو تمدُّناً، وليس لها من وسائل الحرب وسعة العيش وكثرة الموارد ما يؤهلها لأن تناطح هذه الإمبراطوريات الكبرى؛ قد تجرأت على ذلك لسبب وحيد وهو نشر دين الله سبحانه وتعالى وتعبيد الخلائق له.
وقد كان تصور المسلمين لهذه المعارك بأنها معارك وجودية حاضرًا في كلامهم أيما حضور، ومن ذلك ما روي عن ربعي ابن عامر رضي الله عنه في قوله لرستم وحاشيته: «الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبداً حتى نفضي إلى موعود الله»، قالوا: وما موعود الله؟ قال: «الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي»(1)، وقد تم لهم ما أرادوا، حتى استشهد أكثر الصحابة في هذه الحروب وظفر على النصر من بقي منهم، ثم أكمل المسيرة من بعدهم أصحابهم ثم تابعوهم، ودواليك.
الصليبيون في العصور الوسطى والصراع على المقدسات
وكما اعتبر المسلمون أنفسهم أوصياء على المقدسات لوراثتهم دين الأنبياء الذين يؤمنون بهم جميعًا؛ فأحيوا في الناس ملتهم، وعمروا آثارهم وعلى رأسها بيت المقدس؛ فقد بقي عدو عنيد ينازع المسلمين في ذلك الحق، وكان ذلك مبدأ الحروب الصليبية التي بقي أصحابها ينازلون المسلمين منذ عام 490 وحتى 670هـ، وكان من نتائجها احتلال بيت المقدس عام 492هـ، وقد تعاقب على حرب الصليبيين عدد من الدول الإسلامية كالعباسية والسلجوقية والزنكية والأيوبية، ومن بلاد المغرب الحفصية والمرابطية والموحدية، ثم في الأخير المملوكية والعثمانية.
وجاءت أول كسرتهم حينما هزمهم صلاح الدين يوسف بن أيوب في معركة «حطين» عام 583هـ، التي تبعها فتح بيت المقدس، ثم تلا ذلك جهود من عدة جبهات إلى عادت عموم بلاد الشام في أحضان المسلمين مرة أخرى.
التتار والقضاء على جامعة المسلمين
وهم قوم قد يصعب على الكثير تفهُّم ما كانوا عليه من وحشية، حتى ضرب بهم المثل عليها، يكفيك أن تعلم ما صنعوا في بغداد عندما اجتاحوها عام 656هـ، والذي لا يعد فقط إرادة للإنهاء الوجودي للمسلمين؛ بل إرادة لإنهاء جميع ما هو حضاري وعلمي، فإن قتل مليون نفس(2)، وتدمير أكبر مدينة حضارية في العالم وقتئذ (بغداد) وحرق كتبها وهدم آثارها وقتل مفكريها وعلمائها؛ لهو مؤخِّر لعجلة تقدم المنجزات الإنسانية عامة وليس فقط عاملًا في القضاء على المسلمين وخلافتهم.
لكن ذلك ما لم يحدث، فقد بقي المسلمون، وبقي دينهم وسلطانهم، وكُسر التتار في معركة «عين جالوت» عام 658هـ، بل ذاب التتار أنفسهم في جسد الأمة فأسلموا فيما بعد، وهذا ما لا يُتصور حدوثه سوى في حق هذه الأمة الإسلامية الباقية على أمر الله وحمل راية دينه وتقديمه نورًا لهذا العالم ومنقذًا له من كل همجية.
عصر المماليك ونقض زائد لعُرى الحكم
كان للمسلمين أول الأمر جامعة وهي الخلافة العباسية، فكانوا يدينون لها بالولاء كسابقاتها، وبعد أن دُمرت بغداد وقتل الخليفة المستعصم بالله وجد عمه المستنصر بالله الثاني طريقًا ما إلى مصر، فاستقبله الظاهر بيبرس وبايعه بالخلافة، ثم سارت الخلافة أمرًا شكليًا محضًا، فليس للخليفة أي سلطة سوى البيعة له وتسميته خليفةً، وبقيت السلطة الفعلية في يد المماليك.
ومعلوم ما كانوا عليه من تقلبات سياسية وقتل بعضهم لبعض وتغير ولاءاتهم وشراهة بعضهم في أخذ أموال العامة رغم ما كانوا فيه من صلابة في حرب الغزاة وحماية الثغور وتقدمهم في تكتيكات الحروب حسب معايير عصرهم حينئذ، ولأجل هذه المظالم قد فتح الباب لكثير من التهديدات الوجودية للمسلمين سواء في زمن تمكنهم الفعلي من السلطة كصراعهم مع الأيوبيين أو مع بعضهم بعضاً بجانب صراعهم مع المغول والصليبيين، أو وقت وكالة العثمانيين لهم فيما بعد من حكم بعض الدول كمثل ما حصل في الحملة الفرنسية على مصر والشام.
سقوط الخلافة العثمانية وعهد الاستعمار
وجميع ما سبق من صراعات وجودية في تاريخ المسلمين ليس بشيء بجنب ما حدث في أواخر العهد العثماني الذي كُلل بالحقبة الاستعمارية لبلاد المسلمين، فإن سقوط جامعة المسلمين التي تحميهم وتدافع عنهم وتحفظ ولاءها لهم وولاءهم لها فاتحة الباب لتخريب المستعمرين الأوروبيين لبلاد الإسلام كان بمثابة الزلزلة التي لم ينفك المسلمون عن معاناة آثارها حتى اللحظة.
فما احتلال حاضرة المسلمين وأكبر دولها (الهند) وقتل الاستعمار البريطاني ما يقرب من 165 مليون شخص في الهند من عام 1880 إلى عام 1920م، وسرقة أكثر من 43 تريليون دولار إلا حلقة من ذلك(3).
وما احتلال بيت المقدس من البريطانيين ثم تسليمها لليهود وقيام دولتهم عام 1948م وتنفيذهم الأجندة الصهيونية القائمة على نظام الفصل العنصري والاستيطان والتقسيم الزماني والمكاني للمقدسات إلا أثر من ذلك.
وما الاستعمار الفرنسي للجزائر الذي ظل من عام 1830 حتى عام 1962م وشناعة جرائمه التي منها قتل أكثر من 10 ملايين شخص(4) إلا من ثمرته.
ويطول الكلام عن مآسي المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها التي لا تفوقها مآسي غيرهم بحال، وهو ما يشكل تهديدًا وجوديًا لهم ولدينهم وسلطانهم، ومع كل ذلك فلم يفقد المسلمون دينهم ولا إرادتهم ولا رغبتهم في دعوة جميع العالم إلى النور الذي حباهم الله به وإنقاذهم من ظلمات الضلال.
ولذلك، فإن البصيرة بالتاريخ وقراءة الواقع في ضوئه تملي علينا ألا نظن أن ما يتعرض له المسلمون في غزة الآن أمر قد خلت من قبله حوادث التاريخ، بل لا بد أن يُقرأ في ضوء الصراع الوجودي الدائم والمستمر بين أتباع الأنبياء وأعدائهم الذي هو ممتد منذ بدأ الخلق وباق حتى قيام الساعة، وأن نعلم أن معادلة الصراع في نظر كل مسلم صفرية؛ إما أن تربح كل شيء سواء بالنصر أو الشهادة، وإما أن تخسر كل شيء بأن تتخلى عن إيمانك، وهنا تكمن عظمة الإسلام؛ فأن تظل مسلمًا صابرًا على بلاء الدنيا لهو أصل الفلاح الذي يصبِّر على أي صراع قد تمر به ولو عَظُم حتى هدد وجودك على هذه الأرض، فالحمد لله على الإسلام؛ وكفى به نعمة.
________________________
(1) البداية والنهاية لابن كثير، ج9، ص619.
(2) ويشبر بعض الباحثين إلى أنهم 1.8 مليون، وهذا بمقاييس عصرنا كبير جدًا، فما البال بعصرهم!
(3) ووفقاً لدراسة نشرها عالم الأنثروبولوجيا الاقتصادية جيسون هيكيل، في «المجلّة الأكاديمية» (World Development)، وهذا الرقم لا يشمل عشرات الملايين من الهنود الذين ماتوا في مجاعات تسببت فيها الإمبراطورية البريطانية.
(4) بحسب الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان في تقرير لها عام 2017م.