في مستهل العام الجديد وفي خطوة غير متوقعة أقدمت إثيوبيا على توقيع مذكرة تفاهم مع إقليم أرض الصومال الذي أعلن استقلاله عن الصومال من طرف واحد سنة 1991، وبموجب هذه المذكرة يمنح إقليم أرض الصومال – صومالي لاند – إثيوبيا حق استخدام ميناء بربرة المطل على البحر الأحمر لمدة 50 عاماً مقابل حصول الإقليم على حصة في شركة الخطوط الجوية الإثيوبية، وأيضاً الحصول على اعتراف ” أديس أبابا ” بأرض الصومال كدولة مستقلة. تشير المعطيات الأولية إلى أن الهدف الأساسي لإثيوبيا من هذه الاتفاقية هو تمهيد الطريق لبناء قاعدة عسكرية بحرية وتنويع منافذ إيوبيا التجارية على سواحل خليج عدن والبحر الأحمر عموماً، لأن ذلك يحررها من الارتهان للمنفذ البحري الأهم للحركة التجارية والمارة عبر جيبوتي حيث تمر 95% من تجارة إثيوبيا مع العالم الخارجي من ذلك الميناء [1].
وبالنظر إلى الجانب الآخر وهو أرض الصومال المستقل ذاتياً والمتصرف بالشؤون الإدارية والسياسية والأمنية الخاصة بالإقليم بشكل منفصل عن الحكومة المركزية الفيدرالية في مقديشو، فإن هذه الخطوة بمثابة محاولة من هذا الإقليم لتفعيل دوره الإقليمي وممارسة استقلاليته في السياسة الخارجية بشكل أكثر جرأة ووضوح، وذلك في سياق سعيه لنيل اعتراف المجتمع الدولي باستقلاله عن الصومال وسيادة دولته، من خلال فرض وجود كيانه المستقل في الساحة الدولية على كافة الأطراف تدريجياً، كما أن تطبيق هذه الاتفاقية سيتيح مورداً اقتصادياً هاماً لإدارة الإقليم الذي يسعى لتطوير اقتصاده، فشركة الخطوط الجوية الإثيوبية والمملوكة للدولة تعد من كبرى شركات الطيران في القارة الإفريقية، وعليه فإن الحصول على حصة من أرباحها يعود بالنفع الاقتصادي الكبير على خزينة الإقليم.
رفضت مقديشو بشدة تلك الاتفاقية واعتبرتها غير قانونية، ولم تعترف بمخرجاتها لعدم اعترافها باستقلال جمهورية أرض الصومال، كما نددت بذلك الإجراء الذي أقدمت عليه حكومة أديس أبابا واعتبرته عدواناً من طرف إثيوبيا ضد سيادة الصومال ووحدة أراضيه وانتهاكاً للقانون الدولي[2]، ودعت مقديشو عدة جهات دولية كالولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي والجامعة العربية لإدانة هذه الاتفاق وعدم الاعتراف بمشروعيته دولياً [3]. إن هذا الموقف الرافض والحازم من طرف الحكومة الفيدرالية الصومالية طبيعي ومتوقع، ففضلاً عن جهود مقديشو لتأكيد سيادتها على كافة أراضيها وتعزيز سلطة الحكومة المركزية على الأقاليم الصومالية، فإن التحرك الإثيوبي يعتبر خطو عدائية ستساهم في زيادة التوتر في العلاقات بين أديس أبابا ومقديشو، وذلك بعد مسار التهدئة الذي ساد في السنوات الأخيرة بين البلدين عقب نجاحهما في تجاوز وحل بعض المشاكل والقاضيا الخلافية، وهو ما مهد الطريق لانضمام الصومال مؤخراً إلى مجموعة دول شرق إفريقيا والتي تعتبر إثيوبيا أهم أعضائها.
إحدى التبعات الحتمية لهذه الاتفاقية هو زيادة التوتر بين دول منطقة القرن الإفريقي، والتي تعاني من مشاكل داخلية وخارجية بطبيعة الحال، فمن شأن هذه الخطوة أن تعثر جهود دول المنطقة لإحلال السلام الدائم والمستدام فيما بينها، كما يمكن أن تمنح فرصة لإعادة تنشيط الحركات الإرهابية والانفصالية المسلحة في المنطقة، ليس في الصومال فحسب حيث تكافح حكومة مقديشو أنشطة حركة الشباب الصومالية، بل في إثيوبيا أيضاً حيث يمكن أن تستأنف جبهة تحرير تغراي الشعبية تحركاتها المسلحة ضد حكومة أديس أبابا كما فعلت في السابق عام 2020، وذلك بسبب احتمالات التصعيد الإقليمي وتفعيل أوراق الضغط المتبادل بين الدول المعنية بالنزاع.
والحقيقة أن أحد الأسباب الرئيسية خلف حالة عدم الاستقرار في المنطقة هو النزعة التوسعية الإقليمية لدى إثيوبيا، والتي تثير المخاوف والحذر الدائم لجيرانها، وبالتحديد الصومال وإريتيريا، فلطالما كانت إثيوبيا تنظر إلى منطقة القرن الإفريقي وحوض النيل والبحيرات العظمى كمجال نفوذ جيوسياسي لها وامتداد لإرثها الإمبراطوري تاريخياً [4]، ولذلك تحاول دائماً زيادة نفوذها وتأثيرها في محيطها، كما تسعى منذ سنوات طويلة التخلص من العقدة الجغرافية التي فرضها تطور الأحداث وانفصال إريتريا عنها سنة 1993[5] لتصبح بعدها دولةً حبيسة من دون أي منفذ بحري، وذلك بتحقيق حلمها بالحصول على منفذ بحري سيادي خاص بها تعتمد عليه في صادراتها وواردتها. لا سيما أن تصريحات رئيس الوزراء الإثيوبي ” آبي أحمد ” التي علّق فيها على الاتفاقية المذكورة، تحمل في طياتها تلميحات ضمنية بإحتمالية استخدام إثيوبيا للقوة العسكرية في سبيل تحقيق هدفها، مؤكداً أن الوصول إلى البحر الأحمر يمثل قضية وجودية بالنسبة لإثيوبيا وأمنها القومي[6]. لا شك إذاً أن تحرك إثيوبيا بشكل منفرد وأحادي نحو تحقيق طموحاتها دون مراعاة ضرورة التنسيق مع الشركاء الإقليميين ومراعاة الحساسية السياسية لجيرانها، سيقوض جهود السلام المنشود وسيسهم في زعزعة استقرار القرن الإفريقي مستقبلاً في حال لم يتم الاتفاق بين كل من الصومال وإثيوبيا على تسوية معينة ومرضية للطرفين.
في ظل هذا المشهد تعوّل الصومال بشكل أساسي على الدعم والضغظ الدولي والإقليمي على إثيوبيا حتى تنسحب ” أديس أبابا ” من هذا الاتفاق مع منطقة أرض الصومال الإنفصالية، وتعتمد مقديشو في هذا الأمر على عاملين وهما: عدم الاعتراف الدولي باستقلال أرض الصومال، وبالتالي عدم شرعية هذا الاتفاق ومخالفته للقوانين الدولية، والعامل الثاني مرتبط بحشد الدول الممتعضة من سياسات إثيوبيا وتحركاتها، وعلى رأسها مصر التي توترت علاقاتها مع إثيوبيا بشكل كبير في السنوات الأخيرة بسبب الخلافات حول تقاسم مياه النيل وموقف إثيوبيا المتعنت خلال مفاوضات سد النهضة بين كل من مصر والسودان وإثيوبيا [7].
وبالفعل فقد جاءت ردود الفعل الدولية في صالح الصومال، فقد أكدت الولايات المتحدة الأمريكية اعترافها بسيادة جمهورية الصومال الفيدرالية ووحدة أراضيها وأنها ستسعى لإلغاء هذه المذكرة التي تهدد الأمن القومي الأمريكي، كما دعت إلى التهدئة وحل الخلاف بالطرق الدبلوماسية، وجاء موقف الاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي متوافقاً مع الموقف الأمريكي، حيث أكد بيان كل منهما على ضرورة احترام السلامة الإقليمية والسيادة الكاملة لجمهورية الصومال الفيدرالية. وأعلنت الجامعة العربية إدانتها ورفضها لأي شكل من أشكال الاتفاقيات التي تنتهك سيادة جمهورية الصومال الفيدرالية على جميع أقاليمها المحددة بموجب الدستور والمواثيق الدولية، وعليه فقد اعتبرت أن مذكرة التفاهم الموقعة بين إثيوبيا وأرض الصومال باطلة وغير مقبولة. وشددت القاهرة على ضرورة احترام سيادة جمهورية الصومال الفيدرالية ووحدة أراضيها،كما اكدت وقوفها مع أمن واستقرار الصومال [8].
والحاصل، أن هذه المذكرة تمثل بداية لمرحلة جديدة في العلاقات الصومالية الإثيوبية، مرحلة عنوانها التوتر والتصعيد بينهما في حال تصلبت مواقف كلا البلدين ورفضا أي نوع من التسوية، فالصومال أعلنت أنها لن تقبل بأي وساطة دولية قبل انسحاب إثيوبيا من الاتفاق الذي عقدته مع أرض الصومال، في حين لا توحي اللهجة الدبلوماسية الإثيوبية بالمرونة المطلوبة للتهدئة وخفض التوتر. تحدث هذه الأزمة في ظل أزمات أخرى تعصف بالمنطقة وتهدد استقرارها براً وبحراً، وأهمها هجمات الحوثيين في البحر الأحمر وتعطيل حركة الملاحة البحرية والتجارة العالمية، والتحركات العسكرية الدولية التي جاءت كرد فعل على ذلك التهديد. ولذلك يبقى الوصول إلى تسوية وتهدئة مرهوناً بضغط الأطراف الدولية الفاعلة والمؤثرة في المنطقة – وعلى رأسها الولايات المتحدة والصين- على الأطراف المعنية، وبشكل أساسي على إثيوبيا، للانسحاب من مذكرة التفاهم التي وقعت عليها مع طرف غير معترف به دولياً، وذلك مقابل ضمانات لإثيوبيا بتوسيع إمكانية وصولها إلى موانئ البحر الأحمر وتسهيل حركتها التجارية على سواحله، ولعل الصومال تستطيع تقديم تلك التسهيلات في سياق التعاون والشراكة مع ” أديس أبابا “، لأن إثيوبيا ستشعر حينها بإمكانية الانسحاب من المذكرة والاستغناء عن التعامل مع إقليم أرض الصومال.
__________________________
[1] لملوم، دينا، ” تقدير موقف بعنوان: اتفاق إثيوبيا وصومالي لاند .. آفاق أزمة دبلوماسية تلوح في الأفق بين مقديشو وأديس أبابا “، مركز شاف للدراسات المستقبلية وتحليل الأزمات والصراعات، 5/1/2024، https://2u.pw/TOfHxbl.
[2] ” الصومال: مذكرة التفاهم بشأن حصول إثيوبيا على منفذ بحري في أرض الصومال غير مشروعة”، CNN عربية، 2/1/2024، https://2u.pw/vi5HiMU.
[3] ” الحكومة الصومالية تستبعد أي وساطة ما لم تنسحب إثيوبيا من اتفاق مع أرض الصومال”، فرانس 24، 18/1/2024، https://2u.pw/9JiazJM.
[4] ” مذكرة تفاهم بين إثيوبيا وأرض الصومال “، وكالة الأناضول، 2/1/2024، https://2u.pw/2ktKESN.
[5] ” الحكومة الصومالية تستبعد أي وساطة ما لم تنسحب إثيوبيا من اتفاق مع أرض الصومال”، https://2u.pw/9JiazJM.
[6] ” ماذا نعرف عن أرض الصومال ومذكرة التفاهم بينها وبين إثيوبيا؟ “، BBC عربي، 9/1/2024، https://www.bbc.com/arabic/articles/cq51p9dgx4ro.
[7] ” مصر ترفض اتفاقًا يمنح إثيوبيا منفذًا بحريًا في أرض الصومال “، CNN عربية، 3/1/2024، https://2u.pw/7C2UteF.
[8] لملوم، ” تقدير موقف بعنوان: اتفاق إثيوبيا وصومالي لاند .. آفاق أزمة دبلوماسية تلوح في الأفق بين مقديشو وأديس أبابا “، https://2u.pw/TOfHxbl.