القوة الناعمة أو الفن هو ذاكرة الشعوب، وأعظم أحداث الدنيا وصلت للأجيال اللاحقة عبر التدوين والكتابة والروايات الأدبية وأعمال النحت والرسم التي كتبت وصنعت في حينها وتوارثتها الأجيال لتخلد تلك الأحداث الكبيرة، وقد شهد الشارع الفني العالمي نماذج عديدة من تلك الأعمال التي سجلت جانباً من النضال الإنساني عبر تاريخه في سبيل الحصول على حريته، هذا إلى جانب الصراعات التي تدور بين الدول كتوثيق معتبر سواء كانت فناً أدبياً مكتوباً أو لوحة فنية مرسومة بيد مبدع.
ومن الأعمال الفنية التي سجلت أرقاماً قياسية في السينما العالمية، على سبيل المثال، فيلم «تايتانيك» الذي خلد أبطال الرواية المأخوذة من قصة حقيقية في أول سفينة تتحدى المحيط ليحقق أرقاماً قياسية في وقتها، وهي المرتبة الخامسة عالمياً في تحقيق أرباح، حسب الإحصاءات، حيث بلغ عدد التذاكر المباعة 135 مليون تذكرة.
ومنها أيضاً المسلسل الأمريكي «سبارتاكوس»، ويوثق فيه قصة العبيد والتعامل معهم ومحاولات تحررهم المتكررة، ويعتبر من أفضل الأعمال الفنية العالمية في هذا الخضم، وعلى سبيل المثال كذلك مسلسل «الأمريكي» يوثق فترة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي والصراع المخابراتي في كلا البلدين.
ولا يستطيع أحد أن ينكر الدور المهم الذي تمارسه القوة الناعمة في تشكيل وعي الشعوب والحفاظ على التراث والسيطرة الذهنية على شعوب أخرى، وقد برعت أمريكا ومن قبلها فرنسا التي تصدرت قوتها الناعمة العالم، فنشرت ثقافتها حتى بداية عصر العولمة، لتتفوق الدراما الأمريكية وتفرض واقعاً عجز عن فرضه الرصاص والدبابة، وظلت لهوليوود الهيمنة حتى اليوم فنياً وثقافياً حتى تدخل الدراما التركية الحديثة بوجهة تاريخية فجرت مفاجآت عند شعوب العالم أجمع ليصير مسلسل مثل «قيامة أرطغرل» هو رقم واحد بتخطيه الحاجز الملياري في المشاهدة عالمياً، فارضاً قيماً ومُثلاً وأحداثاً جديدة أبهرت المتابع، وفتحت مجال التفكير في تاريخ الدولة العثمانية وفتوحاتها وتوسعاتها وأخلاقياتها وتاريخها الناصع، ذلك التاريخ الذي تم تشويهه عمداً.
فالعمل الفني التاريخي ليس مجرد روايات للتسلية، وإنما هي أعمال تحمل أفكاراً وقيماً وخطابات موجهة لتحقق أهدافاً كثيرة أهمها نشر الفكرة التاريخية التي يحملها حدث ما.
«الطوفان» يحمل الكثير من الرسائل الفنية
بعض الأحداث لا يمكن تناولها إلا من زاوية واحدة، وبعضها يمكن أن تتجاذبه العديد من الزوايا الفنية كالإنسانية والسياسية والأخلاقية والبطولات العسكرية، وبعض الأعمال الفنية الكبرى يمكن أن تلتقط جانباً في حياة الشعب لتبرزه وتعرض من خلاله المعاناة العامة التي يحياها في ظل نظام ما أو وضع اقتصادي أو أمني.
وإذا استعرضنا معركة «طوفان الأقصى» التي يتابعها العالم على الهواء مباشرة في معظم مناحيها -التي لا يمكن حصرها كاملة بكاميرا قناة إخبارية، خاصة الجوانب الإنسانية منها- نجد أنها خصبة بصورة غير متوفرة في أعمال مماثلة، فهي الحرب المنقولة للعالم على مدار الساعة، وهي الحرب التي أثبتت حقاً لم يكن ثابتاً من قبل عند الشعوب التي زيف وعيها إعلام صهيوني موجه منذ اغتصاب الكيان لأرض فلسطين وانتزاع الحقوق التاريخية وتهجير شعبه واتهامه ببيع أراضيه، فإنتاج أعمال فنية تسجل تلك الحرب وذلك التاريخ سوف يستغرقه أكثر من عمل وأكثر من زاوية إنسانية وعسكرية، مع توفر مئات الألوف من تلك الحكايات تبرز تلك الجوانب بغزارة سوف تجذب المشاهد وتجبره على استقطاع وقت المشاهدة إجبارياً ليتابع درامياً ما تابعه حقيقة.
ولأن الأجيال المقبلة لن تعود لمعرفة الحقيقة لفيديوهات تم عرضها يوماً على شاشات الفضائيات، سوف تعود مختارة لمتابعة عمل فني يصف لها الحقيقة بعد ظهورها وانتصارها، فلا حق يضيع وراءه مطالب، والفلسطينيون ليسوا مجرد مطالبين، وإنما سطروا أعظم آيات البطولة عبر التاريخ، وأعادوا لنا عصر المعجزات السماوية حين يفجر دبابة كـ«الميركافا» بقاذفة يلقيها بطل أسطوري شاب بيده ثم يطير في الهواء مكبراً وصارخاً «ولعت»، أو قصة أُم ذهبت باحثة عن الطعام لابنها «الجميل أبو شعر كيرلي» لتعود فلا تجده ولا تجد البيت، أو قصة جد حمل بين يديه «روح الروح»، أو قصة أُم حملت جثة ابنتها قائلة: «حتى ترضى يا رب»، أو إعلامي ينعى ابنه الأكبر بعد أن نعى صغاره وزوجته قائلاً: «هذا ليس بضعة مني، وإنما هو كلي».
إن معركة «طوفان الأقصى» تحمل من الأحداث والأهوال والبطولات التي تصنع عشرات الأعمال الفنية الناجحة التي لن تجد لها نظيراً على الساحة قديماً أو حديثاً، أعمالاً سوف يخلدها الزمن بعظمة الحدث ذاته.
إنتاج ضخم لأعمال تستحق
قد يتخوف المنتجون الكبار من الإقدام على مثل تلك النوعية من الأعمال الفنية، حيث إنها يمكن أن تتعرض فيما بعد لحرب قانونية من جهات ما، ولذلك فلن يقدر على هذا الإنتاج فرد أو حتى مجموعة مشتركة من الأفراد مهما بلغ حجم الإنفاق، ولذلك فمن يستطيع تنفيذ ذلك العمل مؤسسات فنية كبيرة تحميها دول وأنظمة عربية وهي كثيرة، تبنت القضية الفلسطينية وبذلت في سبيلها مالاً ودبلوماسية وجهداً ومبادرات.
لقد نجح إنتاج الأعمال الكبرى، ومنها المسلسلات التاريخية التركية الأخيرة، لوجود نظام ييسر لها ما يتعلق بالتصوير والتسويق، وإن لم تواجه مشكلات قانونية من الأساس بقدر ما كان هناك خشية من إعراض الجماهير عنها، لكن تجربة عرض التاريخ العثماني عن طريق عمل فني لاقى قبولاً عالمياً غير عادي، بل وغيّر بنسبة كبيرة نظرة بعض الشعوب نحو الإسلام كدين وثقافة وأخلاق، وأنه لا يستحق تلك الحرب المعلنة عليه.
وإذا تركت الأعمال التركية آثاراً إيجابية كبيرة، كما حققت مكاسب مادية هائلة لشركة الإنتاج ومكاسب ثقافية للدولة التركية، فإن العمل الفلسطيني المرتقب سوف يؤثر بشكل أكبر بكثير حيث الشعوب التي أصبحت متعطشة للحقيقة، ومعرفة أسرار لا تظهر على الشاشات، أسراراً إنسانية سوف تقف أمامها مشدوهة لعظمة ما يدور هناك على أرض فلسطين في ظل حالة من التحرر والوعي الشعوبي خاصة في الغرب الذي خرج في مليونيات غضباً لحرب إبادة معلنة على أهل غزة، بعدما كان مستسلماً تماماً للرواية «الإسرائيلية» في كون صاحب الأرض ليس إلا إرهابياً.
وكما أن شعوب العالم متعطشة للحقيقة، فكذلك شعوب العرب متعطشة للبطولة التي افتقدتها طويلاً، بعد أن توقفت على أحداث تاريخية تمتد لمئات السنين، صارت اليوم واقعاً ملموساً على يد جيل بدأ بالحجارة وانتهي بـ«الياسين 105» ليصنع واقعاً كان منذ سنوات معدودة مجرد خيال لا يجرؤ أحدهم على التحدث به.
إن تلك الشعوب سوف تمثل حماية معنوية كبيرة لأي عمل في هذا المجال، ليس فقط ليغطي تكاليفه المليونية المرتقبة، وإنما ليمثل أكبر دخل مادي لأول عمل فني في هذا المجال، وتلك قراءة مبنية على تجارب واقعية تمت بالفعل، وقراءة للواقع الثقافي على الأرض، لقد انتهى عصر الأعمال الرديئة التي تكسب المال، لتستمر الأعمال القوية التي تكسب المال والمجد والشرف، فهل من مشمر؟