سلاح جديد دخل الحروب المعاصرة، وتحديدًا الحرب على غزة، وهو سلاح «الصورة» الذي بادرت المقاومة الفلسطينية باستخدامه منذ اللحظات الأولى في معركة «طوفان الأقصى»، منذ 7 أكتوبر 2023م، لقد أحدثت المقاومة تحولًا كبيرًا في مفهوم الصورة وتوظيفها وهندستها وإخراجها على المستوى العالمي، وبعد أن ظل الشرق يتلقى الصورة من الغرب الأوروبي والأمريكي، فجأة حدث انقلاب في اتجاه التحول، فأصبح ذلك الغرب هو المتلقي والشرق هو المرسل، أي تغيير تجاه تدفق الصورة بعد أن كان من الشمال إلى الجنوب، فأضحى من الجنوب إلى الشمال.
«الصورة» من عصر العولمة إلى عصر المقاومة
بينما ظلت «الصورة» المنبعثة من الغرب تشوّه -عبر عقود من العولمة- كل ما هو عربي إسلامي وتصفه بالعجز والتردي، وتعظم صورة العدو الهشة، تأتي نفس الأداة (الصورة) لتغير المفاهيم والتصورات حول ذات الموضوع العربي الإسلامي، ولكن هذه المرة من منظور مختلف تمام الاختلاف، حيث لم تصدر الصورة من خلال مؤتمر يحاول أن يواجه «الإسلاموفوبيا»، أو من خلال حفل سياسي ما أو ديني، ولكن مصدر هذه الصورة كانت المقاومة، أما مسرحها وخلفياتها فكانت أرض غزة.
لقد ثبت في وجدان الإنسان في الشرق أو الجنوب -بحسب تسميات الغرب لنا!- عبر عقود العولمة أن الصورة لا تنبعث إلا عن الغرب وعن هوليوود وعن اليهود، لا يستطيع أحد منافستهم أو التغلب فيها عليهم –كما يقال على غير حقيقة- وقد قادنا هذا الوهم إلى الشعور بالعجز وعدم القدرة على مجاراة هذه المنافسة التي يصنعون فيها كل الكذب والخديعة التي يصدقها العالم الذي وقع هو الآخر في أسر الصناعة الغربية اليهودية للصورة الكاذبة.
كذب صناعة الصورة في الغرب
تمرس الغرب في صناعة الصورة الكاذبة، أو الكذب بالصورة، لتغيير مفاهيم الإنسان الغربي خصوصًا عن القضية الفلسطينية وعن الكيان المحتل، لدرجة كان معها الغربي يظن أن هذا الكيان يعيش مظلومية في المنطقة العربية، وأنه مجني عليه، وليس محتلًا ومغتصبًا لأرض فلسطين والمقدسات، وانتشرت هذه المظلومية عبر نشأة هذا الكيان وتطورت معه لدرجة كاد فيها العالم أن ينسى أن هناك ما يسمى بـ«القضية الفلسطينية» أو بالفعل حدث ذلك النسيان الممنهج.
في ضوء ذلك كانت «الصورة» الغربية الممنهجة عن القضية الفلسطينية بديلًا عن الواقع، لأن «الصورة» التي يصنعها الغرب –لاسيما في عصر العولمة- لا تتطلب جهدًا من التحقق والفحص والتنقيب، فهي تقدم بأكبر قدر من الجاذبية لمتلقٍّ سلبي فقد حاسة النقد والرغبة في الحقيقة، بينما الواقع أو صورة الواقع تطلب جهدًا وفحصًا وتنقيبًا.
في ظل العولمة، تم عولمة كل شيء واعتبار كل شيء قابلًا للنقل والتحكم «عبر الصورة» التي يتحكم فيها المركز الغربي الأوروبي- الأمريكي إلى كل الإنسان على الأرض، ومن نماذج الصور الكاذبة التي صدرها لنا المركز الأمريكي عبر وسائطه الإلكترونية والرقمية والهوليوودية، أن أمريكا راعية الحريات وحقوق الإنسان في العالم، وأن العالم العربي الإسلامي مصدر الإرهاب والشر العالمي، وأن الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها يعملون من أجل سيادة السلام في العالم وحقوق الإنسان ويحاولون تطويع العالم العربي من أجل هذا الهدف السامي والإنساني!
كذلك أيضًا من الصور التي صنعها الغرب والمركز الأمريكي أن المنظمات الدولية منظمات لرعاية الإنسان وحقوقه وأمنه لا فرق في ذلك بين غربي ولا غربي، بين أبيض وأسود وأحمر أو أصفر، بين أمريكا أو غير أمريكا.. الكل سواء أمام هذه المنظومات، وأن الضعيف قويٌّ عندها حتى تأخذ الحق له، وأن القوي ضعيفٌ عندها حتى تأخذ الحق منه!
لماذا كسبت المقاومة معركة «الصورة»؟
استطاعت المقاومة وفقًا لأغلب المشاهدات والمتابعات والرؤى والتحليلات الصديقة وغير الصديقة، الموالية والمعادية، استطاعت أن تكسب معركة «الصورة» التي أدخلت سلاحها الخدمة بكل قوة وجدارة في معركة «طوفان الأقصى»، واعتبرها كثير من المحللين والمتابعين أن هذا السلاح أحد أهم الأسلحة التي ابتكرتها المقاومة في هذه المعركة الشريفة والعادلة «طوفان الأقصى».
في الواقع أنه يمكن رد ذلك التفوق في هذا السلاح إلى عوامل وأسباب مختلفة، إلا أن أهم هذه العوامل من وجهة نظرنا هو أن المقاومة استطاعت تحويل الواقع إلى صورة العكس، فبينما كان الوضع قبلها هو محاولة تحويل الصورة إلى واقع –كما أرادت العولمة- جاءت مدافعة المقاومة لكل صور الغش والخداع في الصورة، لتحويل الواقع إلى صورة أي نقل الحقيقة كما هي، لأن الواقع هو الأسبق والأصدق من الصورة، ومن ثم صوبت المقاومة وصححت العلاقة بين الواقع والصورة من الكذب الذي مارسته العولمة إلى الصدق الذي نقلته المقاومة، ومن الزيف الذي أراد المركز الأمريكي والغربي أن يسكن في وجدان الإنسان المعاصر إلى الحقيقة التي اقتحمت حصون هذا الزيف ودكته مئات المرات.
من ثم، فإن المقاومة لم تصنع مكسبًا خاصًا بها وإن كان ذلك حدث بجدارة واستحقاق كبيرين، فبينما كان العدو يزيف صوره من أول يوم كانت المقاومة تكسب في معركة الصورة من اللحظات الأولى، لكن ذلك كما ذكرنا لم يكن مكسبًا خاصًا للمقاومة على هذا النحو، ولكنه كان مكسباً لكل الإنسان الذي انقاد للحقيقة لأول مرة في عصر العولمة، كانت الصورة التي نقلتها المقاومة في معركة «طوفان الأقصى» التي مسرحها في الواقع هو غزة انقلابًا حقيقيًا لكل أدبيات «عصر الصورة» الذي صنعته العولمة وهوليوود على مدى عقود.
إن الحكم الذي يمكن أن نخلص إليه في معركة الصورة التي قادتها المقاومة في «طوفان الأقصى»، أن الحقيقة هي وحدها التي يمكنها أن تدافع الزيف، وأن الصدق وحده هو الذي يمكن أن يواجه الكذب، وأنه كلما كانت الحقيقة واضحة كان فعل المدافعة أكثر نجاعًا وعافية وقوة؛ لأن الصدق يمكن من التطوير والابتكار والإبداع مهما كان ضعف الإمكانات المادية، فالشعور بامتلاك الحقيقة يعوض الضعف المادي والحادث، كما يدفع الشعور بامتلاك الحقيقة إلى العمل في ظل الظروف غير المواتية وتقديم أكثر النماذج الإنسانية نجاحًا وتفوقًا.