رأى صاحبنا رجلاً وزوجته جالسين بمكان عام، يتبادلان البسمات، والضحكات، ومن حولهما الأطفال يلعبون ويمرحون، فظن أن كل البيوت سعيدة إلا بيته، فراح يؤنب نفسه، ويندب حظه!
ولم يدر صاحبنا أن كل علاقة زوجية يراها في الظاهر مثالية ليس شرطاً أن تكون مثالية أو ربع مثالية خلف الأبواب المؤصدة، فقد طُبع الناس على حب التجمل أمام الآخرين، وربما التصنع والتكلف، وإظهار ما لا يبطنون.
كذلك لم يدر البعض أن مفهوم البعض عن الحياة الزوجية الطيبة قاصر؛ فالمشكلات أمر حتمي، وتصور أن حياة زوجية بدون منغصات أمر وهمي كثر إيراده في أفلام السينما ومسلسلات الرومانسية فقط.
قبل فترة كنت أتصفح الأخبار، فوقفت على خبر مفاده أن إحدى الممثلات الجميلات طلبت الطلاق من زوجها لأنه بحسب قولها: «الرجالة كلها بتبص عليَّ، وهو بيبص على ستات تانية»!
بعيداً عن إسهال الأخبار التي لا تحمل قيماً ولا أهدافاً إلا ما يخدم التشويش على الأخبار المهمة ذات الأولوية، في إطار ما يعرف إعلامياً بنظرية «ترتيب الأولويات»، وبعيداً عن تصدر الخبر وكثرة المعلقين عليه إلا أن عقلي سأل السؤال المنطقي والطبيعي الذي يخطر على البال دائماً: لماذا يتطلع الرجل إلى كل النساء عدا زوجته حتى لو كانت أجمل الجميلات؟! وإلى أي مدى تعد المقارنة سبباً رئيساً من أسباب هدم البيوت؟!
إن العين التي تبرع في المقارنات، تبرع في ذات الوقت في ضياع الاستمتاع بالإيجابيات ولو للحظات؛ لأن دائرة المقارنات أكبر من أن تنتهي، وكلما وجد المرء المتطلع إلى ما في يد الآخرين شيئاً جميلاً، وجد ما هو أجمل منه، ولهذا طبيعي أن تقرأ عن حالات الشكاوى من زوجات يتهمن أزواجهن بالنظر إلى غيرهن رغم فارق الجمال الواسع!
ولهذا لما ماتت زوجة الأخطل الذي اتفق النقاد على أنه أشعر أهل عصره مع جرير، والفرزدق، تزوج من امرأة أخرى أرملة، فوقع كلاهما في فخ المقارنة، إذ كان الأخطل يقارن زوجته الجديدة بزوجته الراحلة، وكانت زوجته تقارن بين الأخطل وزوجها الأول ففسدت عليهما حياتهما، وقد سجل الأخطل تعاسته في هذين البيتين:
كلانا على هم يبيت كأنما بجَنبيْه مَن مَسِّ الفرَاشِ قرُوحُ
عَلَى زَوجهَا المَاضِي تَنوحُ وإنَّني عَلَى زَوجتي الأُخرَى كَذاك أَنوحُ
إن أخطر ما في المقارنات أنها تقتل الإيجابيات، ولهذا كان الرئيس الأمريكي ثيودور روزفلت يردد «المقارنة هي لص السعادة».
وكل جديد له شغف وبه حلاوة، يفسد إن دخل في بوتقة القياس، فبعض الناس فطروا أن يقيسوا ما لا يعرفونه على ما يعرفونه، وفي ثنايا المقارنة يضيع الشغف وتموت اللذة، والعين كما يقول القاضي ابن مفلح ترى ما لا تملك على غير أصله، فإن ملكته رأته على أصله!
وحل كثير من مشكلاتنا في الالتزام بالأمر الرباني: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) (طه: 131)؛ لأن مد العين -يراد البصر- على متاع الدنيا وزخارفها يفتح باباً واسعاً من المقارنات التي تفسد الأوقات، وتقتل الملذات.
واحد من أجمل أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وكل كلام النبي جميل، ذلكم الحديث الذي يقول فيه: «اُنظُرُوا إِلى مَن هُوَ أَسفَلَ مِنكُم، وَلَا تَنظُرُوا إِلى مَن هُوَ فَوقَكُم، فَإِنَّهُ أَجدَرُ أَلاَّ تَزدَرُوا نِعمَةَ اللهِ»، وذلك لأن الواقع يؤيد أن من أسرار دمار النفوس وخراب البيوت التطلع إلى ما عند الآخرين، وضعف القناعة وتدنيها.
وإن من أجلّ نعم الله على الإنسان أن يرزقه القناعة، والتبصر في أحوال الآخرين بنظرة كاملة لا منقوصة، فربما آتاه الله صحة لا يملكها صاحب القصور والأملاك، وإن من أجمل هبات الله للإنسان أن يرزقه نعمة الكف عما لا يملكه، والالتفات إلى ما يصلحه، والإدراك التام بأن لن يكون له إلا ما قدره الله له.
الحياة أقل من أن نقضيها في مقارنات، وأقل من أن نشغلها بالمعارك النفسية، فما أجمل لحظة الصفاء مع القناعة عند كل غروب!