إحصاءات مخيفة تشمل قائمة كبيرة من الدول العربية تتنافس فيما بينها على تسجيل أعلى نسب للطلاق خاصة في السنة الأولى للزواج، وتتباين الأسباب بين دولة وأخرى لتحتل الكويت المركز الأول عربياً كأعلى نسب للطلاق، حيث ارتفعت نسبته في البلاد إلى 48% من إجمالي عدد الزيجات، حسب إحصاء نشرته وزارة العدل الكويتية، تليها مصر حيث بلغت نسبة الطلاق بها إلى 40%(1)، ثم الأردن وقطر حيث ارتفعت نسب الطلاق بهما إلى 37.2%، و37% على الترتيب(2).
وتتباين أسباب الطلاق بين قُطر وآخر حسب الحالة الاقتصادية ومستوى الرفاهية ونسب البطالة والثقافة ونوعية التعليم وغيرها من الأسباب، والطلاق هو المصيبة الأكبر بعد الموت، إذ يترتب عليه ما يترتب على الموت من نتائج قد تكون كارثية في حق النشء، وتشهد ساحات المحاكم الشرعية ومحاكم الأسرة صراعات بين الطرفين يكون الخاسر فيها غالباً المرأة وأطفالها، إذ لا يتوقف الأمر على إشكالية الإنفاق ومسؤولية الأبناء، وما يتطرق لنظرة المجتمع إلى المطلقة، ويؤثر بشكل مباشر على نوعية الحياة الجافة التي سوف يحياها الأبناء، غير كارثة الاستقطاب العاطفي التي يمارسها الأبوان تجاه الأبناء لكسبهما كلاً في طرفه، وإليكم هذه الأسباب:
1- التربية الأسرية الخاطئة:
الأسرة المحضن الأول لتكوين شخصية الإنسان، فهي التي تغرس فيه مجموعة القيم الإيجابية أو السلبية في سن مبكرة، وينبني هذا على حسن اختيار الزوج أو الزوجة كخطوة أولى لتربية أطفال ثم رجال أسوياء، فيقول الله تعالى في أمره للأبوين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) (التحريم: 6)، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع، وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته، وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده، وهي مسؤولة عنهم»(3)، فسلوك الزوجة مع زوجها، وتعامل الزوج مع أسرته هو ما يغرس في وعي النشء فينبني عليه معتقداته وسلوكه وقيمه وثقافته، فالأم التي تتعالى على خدمة زوجها أو تهمشه وتتولى مهمته، وتهمل بيتها تحت أي شعار تكرر نفس النسخة في بناتها، كذلك ما يحدث مع الأب الذي يتعامل بقسوة أو إهمال أو يتخلى عن مسؤوليته التربوية، يخرّج للمجتمع نسخاً غير صالحة لبناء أسرة، فيصطدم بالواقع ليسرع هارباً من مسؤولياته بالطلاق السهل.
2- الإعلام والفن:
مثَّل الإعلام والفن أهمية خاصة في تشكيل وعي الشعوب وإعادة ترتيب أولوياتها وإرسال رسائل ثقافية مؤثرة ترسخت في الوعي الجمعي لها فصارت مسلكاً دون وعي ودون إرادة، ويسمى الفن بـ«القوة الناعمة»، وقد تفوقت فيها هوليوود بشكل خاص، ومنذ ستينيات القرن الماضي، ومثلت فكرة العولمة خطراً على الشعوب بتغيير قناعاتها وموروثاتها الثقافية لدرجة تدفع فرنسا للإنتاج والتنافس خوفاً من الذوبان الثقافي للحفاظ على هويتها التاريخية.
وأما على الجانب العربي، فقد كان الانحطاط الأخلاقي وانتشار ثقافة كأس الخمر والسيجار للشاب المتحرر متعدد العلاقات النسائية محور الأعمال الفنية المصرية منذ ستينيات القرن الماضي، فتم ترسيخ فكرة الخيانة الزوجية لمجرد الهم بالتعدد، ونجحت الفكرة إلى حد كبير، حيث تغيرت الثوابت الموروثة بالمجتمع نتيجة الانخراط والتعاطي مع الأفلام والمسلسلات الموجهة(4)، فصارت رعاية الأم لأسرتها عبودية، ومتابعة الزوج لأهله تدخلاً في خصوصياتهم ونوعاً من الرجعية.
3- العلاقات العاطفية قبل الزواج:
مقتل فتاة على يد صديقها السابق، طلاق الفنانة والفنان فلان وفلان، إدمان الفنانة كذا المخدرات بعد قصة حب ساخنة، انتحار الطالبة فلانة بعد تعرضها لابتزاز غير أخلاقي من صديقها بصور متبادلة على مواقع التواصل الاجتماعي.. كل تلك العناوين وغيرها تابعها الملايين عبر شبكة الإنترنت كنتائج كارثية لعلاقات عاطفية قبل الزواج!
لقد أثبت الواقع أن العلاقة في غير إطارها الشرعي تغيّب العقل والحكمة والتريث في الاختيار، فتحسب الفتاة أنها تعرفه كامل المعرفة فتفرضه فرضاً على أهلها ليضطروا للقبول، ثم تكتشف أنها كانت تتعلق بصورة ذهنية صنعتها بعاطفتها، وعلى الجانب الآخر، يكتشف الزوج أنه ارتبط بفتاة لا تصلح للمسؤولية ولا تعرف من الحياة إلا الخروج والتنزه، أما إذا فشل في الزواج منها فيظل يقارن، وتظل هي تقارن بين هذا الذي يعود من عمله متعباً، وتلك التي أنهكها الحمل والولادة وعمل البيت، والأولى أو الأول الذي كان يظهر أفضل ما فيه، فتصير الحياة الزوجية جحيماً، ولا سبيل لها إلا الانفصال.
4- القضايا والاهتمامات المشتركة:
«كلا، أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكَل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق»(5)، تلك الكلمات الخالدة هي لأم المؤمنين خديجة رضي الله عنها قبل نزول الرسالة على نبي الأمة محمد صلى الله عليه وسلم، معبرة عن إيمان الزوجة بزوجها واهتماماتها بما يهتم وثقته المطلقة بها حد أن يعود بالوحي ليس لصديقه الصدوق أبي بكر، ولا إلى عمه الذي يحبه، وإنما يعود لحضن زوجته مرتجفاً فتشاركه أولى أعظم لحظات الإنسانية، تعضده وتقف خلفه وتعينه؛ فتؤمن به قبل الرجال، وتكفيه حاجة الدنيا بعملها وتربيتها لكثير من الأبناء في بيت واحد.
نماذج كثيرة يزخر بها التاريخ لنجاح زيجات جمعت بين زوجين قضايا مشتركة ليكمل أحدهما طريق الآخر، ويتنزها عن سفاسف الأمور، فتلك كوريتا سكوت كينج، زوجة مارتن لوثر، فهي التي أكملت طريق نضاله في قضية العدالة.
إن الاهتمامات المشتركة تدفع الزوجين للتجاوز عن كثير من الخلافات التي يمكن أن توقع بالبيت في سنواته الأولى، ويكون التفاهم كبيراً كلما كبرت تلك القضايا واتسعت دائرتها.
5- استخدام وسائل التواصل الاجتماعي:
لقد كان حرياً بصانع تلك الشبكات أن يسميها شبكات «العزل الاجتماعي»، فمنذ انتشارها مثلت حالة من العزلة الإنسانية داخل إطار الأسرة الواحدة، وصار لكل فرد مجتمعه الخاص بكل ما يحويه من أصدقاء بأفكارهم وثقافتهم وأخلاقهم، فاستبدلت المرأة علاقات بديلة بانشغال زوجها، واستبدل الرجل صداقات غير بريئة بإهمال زوجته.
وقد ذكر د. دارين آدامسون الذي يحمل درجة الدكتوراة في الطب(6) ثلاثة أخطار محتملة على الأزواج لاستخدام مواقع التواصل الاجتماعي، وهي: الابتعاد عن الشريك، المقارنات المُدمرة للعلاقات، الخيانة.
6- الغيرة المرضية:
«غارت أمكم»، هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لتهدئة الصحابة رضوان الله عليهم، حين دفعت السيدة عائشة رضي الله عنها بصحفة السيدة حفصة وهي مليئة بطعام قدمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته غيرة منها، لقد دفعت الغيرة السيدة عائشة أن تقدم على تصرف كبير أمام الرجال المنتظرين للطعام بكسر الإناء، ليكون رد النبي صلى الله عليه وسلم تفهماً تجاه فعلها ومشاعرها وتقديراً لغيرتها، لكن ذلك التفهم لا يعني معالجة الأمر بحكمة الزوج المنصف، فيقول لها: «إناء بإناء»، لكنه عليه الصلاة والسلام لا يصرخ بوجهها، ولا ينتقدها أمام الناس، ولا ينهرها عليه الصلاة والسلام، فالغيرة المحمودة مطلوبة للحفاظ على دفء العلاقة الزوجية شرط ألا تحرّم حلالاً، أو تحلّ حراماً.
7- عدم فهم طبيعة كل طرف:
(وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى) (آل عمران: 36)، هكذا قال الله عز وجل في كتابه، ليس تقليلاً من شأن أي طرف، وإنما تقرير لاختلاف طبيعة أحدهما عن الآخر، وفي الكتاب المتميز «الرجال من المريخ والنساء من الزهرة»، يقول مؤلفه جون كراي(7)، عن بعض ما يميّز النساء والرجال:
أ- الرجل أكثر اهتماماً بعالم الأشياء، في حين أنّ النساء أشد اهتماماً ونجاحاً في عالم الأشخاص.
ب- المرأة تطلب التواصل وتحب العلاقات الشخصية، وهي تميل أكثر إلى الكلام في العواطف.
جـ- يُظهر الرجل رغبة في المنافسة، في حين تظهر المرأة رغبة في المشاركة.
د- المرأة أقدر على قراءة الشخصية، ولديها حدس قوي، في حين نجد أنّ الرجل أقدر على الإحساس بالمكان والاتجاهات وقراءة الخرائط.
8- الانتقاد الهادم والاستخفاف بمشاعر الآخر:
وهو القاتل الصامت والداعي الأول للكراهية بين زوجين حديثين، فتوجيه اللوم على الدوام من أحد الزوجين للآخر خاصة أمام الأهل أو الأصدقاء ينال من ثقته أمام نفسه، وقد يدفع الآخر للنيل منه قصاصاً لكرامته؛ فتصير الحياة ساحة معركة يحاول كل طرف فيها تجريح الآخر وإهانته، وكان الأولى أن يحاول تغيير صفة ما لا يحبها فيه بالمودة والحب والطلب بلطف ومساعدته في ذلك حتى تصير عادة.
9- عدم الاستماع:
وآفة أي مجتمع إنساني هو عدم الاستماع للآخر؛ فتضيع الحقيقة بين الصراخ والشكوى والأعلى صوتاً، وتلك المهمة في المقام الأول هي مهمة الرجل الذي يجب عليه أن يضع قاعدة للتواصل بين أطراف الأسرة سواء الزوجين أو الأبوين والأبناء، فالاستماع لوجهة النظر قد يغير المشكلة تماماً ويصل جسور التواصل من جديد.
10- تدخل الآخرين:
إن ترك الفرصة للغير مهما كانت درجة قربهم من الزوجين يمكن أن تنقل المشكلة لمكان آخر يصعب معه حلها، وقد ذكر القرآن مرحلة تدخل الأهل وهي مرحلة الشقاق أو الانفصال: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا) (النساء: 35)، والحفاظ على أسرار الزوج والزوجة فيما بينهما مدعاة لاحترام أحدهما الآخر، وبقاء المودة والحفاظ على الزواج، إلا إذا كان الحَكَم من القرباء الحريصين على الحفاظ على البيت الوليد.
عن النعمان بن بشير، قال: استأذن أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا عائشة ترفع صوتها عليه، فقال: يا بنت فلانة، ترفعين صوتك على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فحال النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبينها، ثم خرج أبو بكر فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يترضاها، وقال: «ألم تريني حلت بين الرجل وبينك»، ثم استأذن أبو بكر مرة أخرى، فسمع تضاحكهما، فقال: أشركاني في سلمكما كما أشركتماني في حربكما(8).
وهناك بالطبع أسباب أخرى يمكن أن تطيح بالبيت الهادئ الوليد يجب أن ينتبه لها الزوجان حفاظاً على حائط الصد الأخير في المجتمع العربي الذي يتعرض لهزات عنيفة تهدد الثوابت التاريخية والأخلاقية للأسرة العربية المسلمة.
_______________________
(1) الجهاز المركزي للمحاسبات- مصر، في تقريره لعام 2022م.
(2) موقع الجزيرة، 22 يوليو 2022م.
(3) صحيح البخاري.
(4) بناء على دراسة نشرت بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية- مصر، 31 يناير 2021م.
(5) صحيح البخاري.
(6) رئيس قسم العلاقات الزوجية والعلوم الأسرية في جامعة نورث سنترال.
(7) كاتب ومؤلف أمريكي، ولد في ولاية تكساس الأمريكية عام 1951م، ويعيش في ولاية كاليفورنيا، ألف عام 1992م كتاباً اشتهر عالمياً وطبع منه ملايين النسخ، هو كتاب «الرجال من المريخ، النساء من الزهرة» الذي يعتبر دليلاً لفهم الجنس الآخر.
(8) السلسلة الصحيحة (6/ 944).