كشفت المحطة التاريخية الفارقة التي يمر بها العالم الإسلامي منذ انطلاق «طوفان الأقصى»، في 7 أكتوبر 2023م، عن أهمية الفهم العميق للتحديات والديناميات التي تشكل تأثيرًا مباشرًا على مستقبل الأمة بعد العدوان «الإسرائيلي» على قطاع غزة، وما كشفته من ترسخ ذهنية الإبادة الجماعية في العقل الجمعي الغربي والصهيوني؛ ما ضاعف من أهمية تعلم اللغتين الإنجليزية والعبرية في معرفة ثقافة أعداء الأمة ومجاهدة «الهاسبرا الصهيونية».
و«الهاسبرا» مصطلح يستخدم لوصف آلة الدعاية الصهيونية التي تمارس «البروباجندا» (الدعاية المضللة) بهدف تبييض صورة الكيان الصهيوني ومواقفه وإخفاء جرائمه التي يرتكبها على الساحة الدولية، وتعتمد على استخدام مجموعة متنوعة من الأدوات لنشر رؤية الكيان الصهيوني والتأثير في الرأي العام الدولي، مثل وسائل الإعلام التقليدية والاجتماعية، والروابط الإخبارية، والدبلوماسية العامة، والحملات الثقافية، وغالباً ما تكون باللغتين العبرية والإنجليزية.
وتشير دراسات حديثة إلى هذه الأهمية عبر تجارب أجريت على مجموعات تتقن اللغتين وأخرى لا تعرفهما، وقياس مدى قدرة أفراد كلتا المجموعتين على فهم وتحليل الخطاب الغربي، الذي تهيمن عليه الرؤية الصهيونية، ومنها دراسة نشرتها مجلة «The Journal of Language and Social Psychology»، أوردت لي أن تعلم اللغتين الإنجليزية والعبرية يسهم بشكل فاعل في توسيع آفاق الفهم للسياقات الثقافية والتاريخية المؤثرة في العقليات الغربية.
وبحسب خلاصة الدراسة، فإن للأفراد الذين يتقنون هاتين اللغتين يمكنهم التفاعل بفعالية مع الأحداث وخلفياتها الثقافية، باعتبار أن منظومة الفعل الغربي هي الأكثر تأثيراً على مستوى العالم، ما يزيد من القدرة على فهم التحولات السياسية والاجتماعية.
وخلصت دراسة أخرى، نشرتها مجلة «International Journal of Intercultural Relations»، إلى أن تعلم اللغة الإنجليزية يفتح أفقًا جديدًا للفهم لرؤى وسائل الإعلام الغربية، إذ يمكن للأفراد الذين يجيدونها تحليل تقارير الأخبار والمقالات بشكل أعمق؛ ما يساهم في تفسير الأحداث العالمية بشكل أكثر تميزًا.
وفي نطاق البحث والتحليل، أوردت دراسة نشرتها مجلة «The International Journal of Applied Linguistics»، أن الأفراد الذين يجيدون اللغة الإنجليزية يمتلكون قدرة أكبر على الوصول إلى مصادر المعلومات، ويعني ذلك أنهم قادرون على متابعة النقاشات العلمية وفهم التحولات في الفكر الغربي بشكل أفضل.
قوة ناعمة
وفيما يتعلق بخصوصية اللغة العبرية، تلفت دراسة نشرتها مجلة «The Journal of Communication and Society» إلى أن تعلم لغة الكيان الصهيوني يعزز القدرة على تحليل الديناميات الثقافية والسياسية في «إسرائيل»؛ وبالتالي يمكن للأفراد من خلالها فهم التفاعلات والتحولات داخل المجتمع الصهيوني.
ويُظهِر استناد هؤلاء الأفراد إلى اللغة العبرية في تحليل الأدب والثقافة الصهيونية قدرتهم على التحليل العميق لمضامينها الفكرية، وتسليط الضوء على القضايا الاجتماعية والثقافية التي تتناولها وسائل «القوة الناعمة» للكيان الصهيوني.
وتنطوي قدرة الفهم والتحليل على استيعاب المصطلحات وحمولتها الثقافية، ومنها مصطلح «الهاسبرا» نفسه، ولذا فتعلم العبرية له أهمية كبيرة في آلة الدعاية الصهيونية وأساليب تضليلها وعرضها لصورة المسلمين والعرب في خطابها الموجه إلى الشعوب الغربية ومراكز صناعة القرار بالأساس، بحسب الدراسة.
وكشفت عديد المشروعات للمقاومة الفلسطينية عن إدراك لأهمية تعلم اللغة العبرية، إذ نفذت قبل وبعد «طوفان الأقصى» العديد من عمليات الاختراق السيبراني وإرسال رسائل تهديد أو التحذير إلى الجمهور الصهيوني، سواء في إطار الحرب النفسية خلال الحرب العسكرية أو في سياق توجيه النقاشات العامة بصورة تخدم السردية الفلسطينية، ما أوردته الفيديوهات الصادرة عن «كتائب القسام»، التي وجهت بعضها لأهالي أسرى الصهاينة في قطاع غزة.
وسلطت صحف عبرية الضوء على هذا الاهتمام الفلسطيني بتعلم اللغة، واعتبرته أحد عناصر القوة التي طورتها المقاومة في مشروعها، خاصة أن قائد حركة «حماس» في غزة، يحيى السنوار يجيد العبرية، التي تعلمها في سنوات أسره بالسجون الصهيونية، حسبما أورد تقرير لصحيفة «يسرائيل هيوم».
مدرسة عبرية
وظهر تصاعد هذا التواجه في إقبال الغزيين على تعلم اللغة العبرية في السنوات الأخيرة، خاصة بعد الحروب «الإسرائيلية» المتكررة على غزة، وقرار حكومة القطاع، التي تقودها حركة «حماس»، بتعلم اللغة العبرية، للمستويين التاسع والعاشر، اختيارياً بداية من العام 2013م.
ولم يكن هذا القرار من فراغ، إذ أسست «كتائب القسام» مدرسة لتعليم اللغة العبرية في قطاع غزة عام 2012م، بهدف تدريب عناصر المقاومة الفلسطينية على تعلم اللغة العبرية والترجمة والتحليل الإعلامي والمخابراتي، وتقديم دورات مكثفة للمقاتلين والمتحدثين الرسميين والمراسلين الحربيين.
وأظهرت عملية «طوفان الأقصى» مدى تمكن كتائب المقاومة من فهم عمق العقلية الصهيونية وقدرتها على مخاطبتها بلغتها، وهو الأثر المباشر لتعلم اللغتين العبرية والإنجليزية، وانعكاسه على التفاعل الثقافي الجماعي للقضية الفلسطينية ليصبح لدى أبناء الفصائل في قطاع غزة القدرة على المشاركة بشكل أكبر في الحوارات العالمية وتشكيل رؤى متماسكة حول التحديات الراهنة والمستقبلية التي تواجه الأمة الإسلامية.
ولأن الحلف الغربي، وقاعدته الإستراتيجية المتقدمة، المتمثلة في الكيان الصهيوني، هم الجهة الوحيدة ذات العلاقة الحربية بالأمة الإسلامية على مدى 14 قرناً، فإن تعلم الإنجليزية والعبرية لأبناء الأمة الإسلامية لم يعد محض ثقافة ترفيه، بل أصبح من لوازم واجب معرفة العدو، و«ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب»، بحسب القاعدة الأصولية.