تطرح ملحمة غزة تساؤلات وعلامات استفهام كثيرة قد لا يجد المتأمل غير المتشبع بالثقافة الإسلامية لها إجابة. يحدث ذلك بسبب الثقافات المعاصرة، حتى في بعض البيئات الإسلامية التي تأثرت بالغرب تأثرًا عميقًا، ليس بالغرب المادي الاستهلاكي السطحي فحسب، ولكن بالغرب الفلسفي والعقائدي الذي يعتبر الحياة الدنيا، بدونيتها ومحدوديتها منتهى مبتغاه.
ما حدث ويحدث في غزة، والذي نرى بعض آثارة في الملحمة الجبارة التي يسطرها أهلنا هناك ما كان له أن يحدث لولا أن هناك اتصالًا للأرض، أرض غزة المباركة، بالسماء، اتصال نرى نحن، ويرى العالم بعض آثاره.
معجزات حقيقية
ما حدث ويحدث هناك إعجاز حقيقي، إعجاز بكل معنى الكلمة.
كيف تمكنت غزة العزة، ذلك الشريط المتناهي في الصغر، بلغة الجغرافيا، كيف استطاع قطاع غزة الصغير، الذي لا يشكل أكثر من 1,33% من مساحة فلسطين التاريخية من الوقوف أمام العالم كله، متحديًا منتصرًا.
قطاع غزة الذي يبلغ طوله كله 41 كيلومتر، مسافة تقطعها السيارة العادية في دقائق معدودة، كيف استطاع أن يذل جيشًا يناهز تعداده نصف مليون جندى مدرب على أعلى مستوى ومدجج بأحدث الأسلحة؟
كيف استطاع رجال قطاع غزة المحاصر، الذي لا يتجاوز عرضه في أقصى اتساع له 12 كيلومتر، من جعل عبوره مهمة مستحيلة على جيش يردد إعلامه أنه جيش لا يقهر؟
وكيف يستمر رجالنا في غزة في قتال “إسرائيل”، التي لا ينقطع عنها المدد من كل أنحاء العالم، هي ومن وراءها من عجم وعرب؟
هذا، لا شك، إعجاز، بكل المقاييس، فما نراه في غزة، ليس محض مقاومة، ولكنها معجزات، معجزات تقع أمام أعيننا، وأمام أعين العالم، لا ينكرها إلا غافل أو جاحد.
قد يقول قائل، فعلها آخرون في فيتنام وأفغانستان.
وهل فيتنام، رغم انتصارها وكفاحها الفذ، هل فيتنام التى كانت تستند على الحائط الصيني والسوفييتي آنذاك ودول أخرى كثيرة، كانت تمدها بكل شيء، مثل غزة المحاصرة؟ لا يستويان مثلا.
هل فيتنام، مالكة الموارد الطبيعية الغزيرة، مثل غزة التي تحجب عنها حتى شربة الماء؟
وحتى أفغانستان، التى هزمت أكبر قوتين في هذا الزمان، كانت تتميز بمزايا، لو توفرت لرجال غزة، لحسموا المعركة في بضع شهور!
فكيف تكون هذا الجيل الغزاوي الفلسطيني الفريد؟ ومن أين أتى بكل هذه الصلابة والعبقرية؟
عزلة محمودة
ظن أعداؤنا أنهم سيحققون أهدافهم الدنيئة الخبيثة بعزل غزة، غزة العزة، عن العالم، وما دروا أنهم يعزلونهم عن آفات معدية وأمراض فتاكة، لوثوا بها فضاءات العالم. فقد أبعدوهم، دون أن يدروا، عن فنونهم المغرضة التافهة، وألعابهم المثبطة للهمم القاتلة للمباديء وللأخلاق. هكذا أعماهم الله، فقد سلموهم، من خلال هذا الحصار الظالم، لرجال عاهدوا الله وعاهدوا أمتهم بأن يعيشوا ويموتوا لله. ” قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ.” الأنعام: 162، 163. فتهيأت لهم سبل التربية السليمة على دين الفطرة، وما أسماها من فطرة!
تربويون أفذاذ
نستطيع أن نستنتج بسهولة، أن هؤلاء الأبطال، رجالا ونساء، قام على تربيتهم مربون أفذاذ من أمثال قائدهم الشهيد أحمد ياسين، الذي لم يعقه عائق، على المستوى الشخصى أو غير الشخصى، عن الجهاد بما توفر له من إمكانات أقرب إلى العدم، واثقا بنصر الله الملك الحق المبين. مربون علموهم أن النصر منحة ربانية، ” وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ” الأنفال 10
علموهم أن” الله هو الذي ينصرهم، وبيده نصر من يشاء من خلقه، ” عزيز “، لا يقهره شيء، ولا يغلبه غالب، بل يقهر كل شيء ويغلبه، لأنه خلقه … حكيم في تدبيره ونصره من نصر، وخذلانه من خذل من خلقه، لا يدخل تدبيره وهن ولا خلل.”1
تربية قرآنية نبوية
رأى العالم غزة كلها، كبارا وصغارا، شبانا وكهولا، رجالا ونساء، لا تحتفي بشيء بقدر احتفائها بالذكر الحكيم، كتاب الله، حفظا وتجويدا وترتيلا. فلله در رجال حولوا “القرآن العظيم” إلى {ترند- رائج} لا يزاحمه {رائج} آخر في حياتهم. واندفع من المؤمنين رجالا صدقوا الله فصدقهم، يربون أهلنا في غزة على مائدة القرآن، وما أعظمها تربية، بهرت العالم بنتائجها وبركاتها. رأينا من نتائجها معجزات تتحق أمام أعيننا وما سنراه في مقبل الأيام أعظم.
دين يتحرى الحق والعدل
بعيدا عن التشويش والتشويه والتدليس، وفي بيئة فريدة في وضعها ونهجها، استطاع حملة مشاعل الحق أن يعرضوا الاسلام غضا من خلال مصادره التي تتحرى الحق ولا تحكم إلا بالعدل، ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ “. المائدة (8)
على هذا تربى أهل غزة العزة، ولذلك رأيناهم في أوج تفوقهم وانتصارهم في السابع من أكتوبر المجيد، لا يروعون طفلا، ولا يقتلون شيخا ولا امرأة، بل ويعاملونهم معاملة إسلامية راقية، مترسمين قول المصطفي صلى الله عليه وسلم، ” لا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الولدان، ولا أصحاب الصوامع.” رواه أحمد.
ووصايا خليفته الأول رضوان الله عليه: “لا تخونوا ولا تغلوا، ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاةً ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمآكلة”.
هؤلاء الذين خرجوا من رحم المحنة في غزة، الثلة التي تربت على مائدة القرآن، جديرون بقيادة الأمة الاسلامية للخروج من تيه التشرذم واليأس والتبعية، إلى سعة الوحدة والنصر والتقدم، بل وقيادة العالم كله للخروج من جور النظام العالمى الظالم الذي تنفرد به أمريكا، إلى نظام عالمي لا يظلم فيه أحد. وما ذلك على الله بعزيز. ” فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا”، المعارج.
———–
1-تفسير الطبري