تحقيق: مجاهد الصوابي – حسن القباني:
في مارس هذا العام (2024م) تحل على المسلمين، بل العالم أجمع، ذكرى مرور قرن على سقوط الخلافة الإسلامية (العثمانية)، آخر دولة توحدت تحت لوائها أقطار الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها.
في هذا التحقيق، تفتح «المجتمع» هذا الملف وتسبر أغوار تلك القضية التي شغلت المسلمين؛ أفراداً وجماعات ودولاً، على امتداد قرن مضى وما زالت، مستذكرة خسارة العالم والأمة الإسلامية وبال هذا السقوط.
بداية، يؤكد د. رفيق عبدالسلام، وزير الخارجية التونسي الأسبق، القيادي بحركة النهضة، لـ«المجتمع»، أن المسلمين خسروا الشيء الكثير بسقوط الخلافة، إذ وجدوا أنفسهم بما يشبه حالة يُتْم سياسي، ونهباً للاحتلال الأجنبي، وإعادة رسم الحدود والخرائط بحسب أولويات وحسابات القوى الكبرى؛ بل تحول الإسلام موضع إدانة واتهام بكل السلبيات والرذائل من عنف وإرهاب وتعصب وفشل سياسي وتنموي وغيره، وكأن الإسلام والمسلمين مصدر الشرور في عالم اليوم.
عبدالسلام: الخلافة كنموذج تاريخي تفكَّك ولن تعود الأمور لما كانت عليه
وأضاف عبدالسلام أن الإصلاحيين الإسلاميين مثل رشيد رضا، وشكيب أرسلان، وعبدالله نديم، ومن قبلهم جمال الدين الأفغاني، وغيرهم، كان لديهم طموح بتجديد الخلافة في إطار رابطة عربية تركية قوية، ولكن كانت الأحداث أكبر منهم جميعاً؛ إذ انتهى الأمر إلى «طلاق» تاريخي بين العرب والترك في إطار صعود القوميات، وتمزق شمل المسلمين تبعاً لذلك في كيانات وطنية هشة وضعيفة.
وأعقب ذلك اشتداد القبضة الغربية على العالم الإسلامي، ولكن خسارة العرب كانت أكثر وأثقل من غيرهم من أمم الإسلام الكبرى، فقد نجح الأتراك نسبياً في تشكيل كيان قومي وازن يضم منطقة الأناضول والروملي، بينما تحول العرب إلى كيانات قُطرية هشة وضعيفة ومتنازعة فيما بينها، وبموازاة ذلك تم غرس الكيان الصهيوني في قلب العالم العربي.
وأشار إلى أن عالم الإسلام الذي يفوق عدده اليوم ملياراً ونصف مليار مسلم يمتلك ثقلاً ديمغرافياً هائلاً وامتداداً جغرافياً واسعاً، ويتوفر على الثروات والمضايق والممرات والرسالة العالمية، ولكنه لا يمتلك صوتاً موحداً في عالم تنافسي وشرس، بحكم غياب الحد الأدنى من الانسجام وغياب الكيان السياسي الموحد الذي يعبر عن صوت الإسلام والمسلمين، رغم أن أغلب الأزمات والحروب والصراعات والكوارث تجري على أرض الإسلام، بينما تمكنت أمم أخرى منيعة من تثبيت أقدامها والوقوف بنديّة في وجه القوى الغربية الكبرى بعد عقود طويلة من الضعف والهوان بسبب وجود كيان سياسي يعبر عنها مثل الصين والهند مثلاً.
شلبي: غياب الخلافة الإسلامية حرم العالم أجمع من الاتزان القيمي والأخلاقي
ولفت عبدالسلام إلى أن الخلافة كنموذج تاريخي تفكك ولن تعود الأمور لما كانت عليه؛ لأن التاريخ لا يكرر نفسه، وقد جرت مياه كثيرة في النهر الإسلامي الكبير، ولكن من الممكن وجود شكل من أشكال الارتباط السياسي بين مختلف أمم الإسلام في إطار منظمة التعاون الإسلامي مثلاً، أو غيرها، على غرار الرابطة القارية العابرة لحدود الدولة القومية للاتحاد الأوروبي مثلاً، وهذا الأمر يقتضي رؤية ومشروعاً مشتركاً تقوده الأقطار الإسلامية الكبرى؛ مثل إندونيسيا وباكستان ومصر وتركيا والمملكة العربية السعودية وإيران، ووجود اتفاق بين هذه الدول الإسلامية الكبرى من شأنه أن يحيي شكلاً من أشكال الرابطة الإسلامية بما يشبه نطام الخلافة التاريخي، ولكن وفق المعطيات الجديدة والتحديات المستجدة.
دول وكيانات
من جانبه، يوضح عضو الأمانة العامة للمؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج بشار شلبي، لـ«المجتمع»، أن خسارة المسلمين كبيرة بسبب سقوط الخلافة العثمانية على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي والعلمي والديني، وتحولت الأمة الواحدة إلى دول وكيانات، وتمزقت وحدة الأمة ودب الشقاق والخلاف والنزاعات بين أقطارها؛ وزُرع الكيان الصهيوني بينها ليعمق الفرقة والنزاع وسط المسلمين؛ فلا استقرار ولا نهضة ولا تنمية.
حمدادوش: الأمة لا تزال تمتلك عناصر الإمْكان والاستئناف الحضاري مجدداً
ويضيف شلبي أن ثروات أمتنا الإسلامية نُهبت، وسيادتها ومقدساتها انتُهكت، وحرية شعوبها سُلبت، كما خسرت البشرية كثيراً نتيجة غياب دولة الخلافة وعدم فعالية المسلمين، وسقوط كيان إسلامي حقيقي موحَّد يجمع كافة مقدرات الأمة الاقتصادية والتجارية، ويسيطر على الممرات المائية العالمية المهمة، كما غابت الجوانب الأخلاقية والقيمية الإنسانية، وتحولت إلى شريعة الغاب والإلحاد، وعلو قوى الشر على حساب القيم والأخلاق في عالم اليوم.
ويؤكد أن العالم خسر بتحوله إلى رهينة بيد الغرب والمسيحية الصهيونية المستندة إلى ركائز دينية إنجيلية توراتية التي تسيطر على مقدرات العالم اليوم، وشكلت ركائز بناء الحضارة والقيم الغربية، وتم تثبيت ذلك في القانون الدولي والمؤسسات الدولية التي غاب عنها المسلمون تماماً.
ولفت شلبي إلى أن غياب الخلافة حرم العالم من الاتزان القيمي والأخلاقي الذي يدحض فكرة صراع الحضارات القائم على الاستبداد والظلم والإبادة الجماعية للأمم، وهذه أكبر خسارة قيمية خسرها العالم لاستعادة روحه التي غابت مع تلك الحضارة المادية التوراتية المتوحشة.
فيما يتحدث ناصر حمدادوش، البرلماني السابق والقيادي في «حركة مجتمع السلم» الجزائرية، لـ«المجتمع»، أن التاريخ المعاصر يسجل يوم 3 مارس 1924م كأسوأ محطة سوداء في جبين الإنسانية، فهو الذكرى المؤلمة للإلغاء الرسمي للخلافة الإسلامية بالعصر الحديث، فهو الحدث الدراماتيكي الذي غيَّر مجرى العالم العربي والإسلامي، بل غيَّر وجه البشرية جمعاء.
الكتاني: أعداء الأمة نشروا القوميات الجاهلية التي فرَّقت الوحدة الإسلامية
ويؤكد حمدادوش أن القرن العشرين مثَّل لحظة الانفجار الكبير للصراعات الدولية الصاخبة، التي غيَّرت الخارطة السياسية في العالم، وكانت بداية هذا الانفجار الملتهب مع الحرب العالمية الأولى بين عامي 1914م و1918م، التي راح ضحيتها نحو 37 مليون نسمة، وهو ما أثَّر على موازين القوى العالمية، وأدى إلى سقوط دول وإمبراطوريات، وعلى رأسها الخلافة الإسلامية، المتمثلة في الدولة العثمانية.
لقد كانت الأداة في إسقاط الخلافة الإسلامية النزعة القومية التي قادها كمال أتاتورك، الذي ربط تقدُّم البلاد وتطورها بالتخلي عن الهوية الإسلامية؛ عقيدة وشريعة وسلوكاً، بمحاولات مستميتة لفصل تركيا عن بعدها التاريخي والحضاري، والتآمر مع الصهيونية العالمية والقوى الغربية من أجل انفراط عقد العالم العربي والإسلامي دون راية إسلامية جامعة.
ولفت حمدادوش إلى أن سقوط الحضارة الإسلامية، ثم الكيان السياسي لها بسقوط الخلافة رسمياً عام 1924م، لا يعني السقوط الكلي لعناصرها، وذلك لبقاء الفكرة الإسلامية على مستوى الفرد والمجتمع، فلا تزال الأمة تمتلك عناصر الإمْكان والاستئناف الحضاري من جديد، كما يقول د. عمر عبيد حسنة، فهي تمتلك رصيد التجربة الإنسانية ومختبر المعرفة التاريخية المتمثلة في النُّبوَّة الخاتمة، وتمتلك صحَّة النّص السماوي المحفوظ والمستوعِب للأفكار والقيم، وتمتلك العقيدة الصحيحة عن الله والكون والإنسان والحياة، وتمتلك التجربة الواقعية السابقة للدولة والحضارة الإسلامية، وتمتلك امتداد الأنموذج التطبيقي لها عبر الزَّمان والمكان والإنسان.
حسين: خسارة واضحة ولا بد من السعي للوحدة الإسلامية الكونفدرالية
ويوضح أن الحديث عن مأساة سقوط الخلافة الإسلامية في الماضي لا يُشغِلنا عن الحديث عن إمكانية الاستئناف الحضاري للأمة من جديد في الحاضر والمستقبل، وهو دور العلماء والمصلحين والمجدِّدين.
القوميات الجاهلية!
ويقول الشريف الحسن الكتاني، عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، لـ«المجتمع»: إن سقوط الخلافة يوم عيد بالنسبة لأعداء الأمة، وكان من نتائجه المريرة تقسيم دار الإسلام لدول وأقطار متناحرة، وفقاً لاتفاقية «سايكس وبيكو»، التي تركت لكل بلد قنبلة موقوتة عما قريب ستنفجر، واحتلال أغلب ديار وأقطار الإسلام، وما لم يُحتل كُبِّل بمعاهدات تجعله يتبع مصالحهم.
ويضيف الكتاني أن أعداء الأمة نشروا القوميات الجاهلية التي فرَّقت الوحدة الإسلامية، وأرجعت المسلمين لشعوب متناحرة يكره بعضها بعضاً، فلا القومية العربية استطاعت أن توحِّد البلاد، ولا الكرد والترك والبربر استطاعوا بناء دولة تجمعهم، فكانوا في ثورات مستمرة منعت المسلمين من النهوض.
ويلفت إلى أن سقوط الخلافة كان مصيبة أدت لانهزام المسلمين انهزاماً نفسياً، تلاه انهيار تام أمام الحضارة الغربية الفاسدة، ولولا أن الله تعالى هيأ الحركات الإسلامية التي قاومت بشدة كل ذلك، لكان المسلمون والإسلام في وضع آخر.
من جانبه، يرى المفكر الإسلامي المصري مجدي أحمد حسين، في حديث لـ«المجتمع»، أن خسارة العالم والمسلمين واضحة من سقوط الخلافة، فلم يعد هناك قطب إسلامي يشارك في إدارة العالم، ولم يعد هناك حصن يحتمي به المسلمون ويبنون حضارتهم بشكل مستقل، مستدركاً أننا يجب ألا نتباكى على سقوط الخلافة بعد مرور 100 عام على ذلك، فهذه سُنة من سنن الله في خلقه، مصداقاً لقوله تعالى: (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) (آل عمران: 140).
د. حسني: الخلافة «صمام أمن كوني» فقَدَه العالم وخسر جهوده العلمية
ويشدد حسين على أهمية السعي للوحدة الإسلامية قائلاً: حري بنا أن نعيد بناء الدولة الإسلامية الموحَّدة، وقد بدأ المسلمون بالفعل فور سقوطها بتأسيس كل الحركات الإسلامية التي تموج بها بلدان العرب والمسلمين، في محاولة بناء دول إسلامية على مستوى الأقطار، وعلينا أن نسعى إلى الوحدة من جديد على أساس المفهوم الكونفدرالي للوحدة، عبر التركيز على الوحدة في مجالي السياسة الخارجية والدفاع، ووضع الأسس الدستورية العامة للدولة الإسلامية الكونفدرالية.
من ناحيته، يشعر المستشار التربوي والأكاديمي المتفرغ بالجامعة العالمية بماليزيا د. علاء حسني، في حديث لـ«المجتمع»، بمرارة كبيرة، في ذكرى سقوط الخلافة، موضحاً أنها كانت حصناً حصيناً للأمة ولاستقرار العالم، بهدمه خسر المسلمون على كل الصُّعد، وتوزعوا فرقاً سياسية؛ ما أذهب قوتهم، وأصابهم بالهوان على الناس والتخلف في كل الميادين، وهو ما أثَّر سلباً على كل العالم، حيث خسر تواجد هذا الكيان الأممي.
ويصف د. حسني الخلافة بأنها كانت «صمام أمن كوني» يرعى ويعزز سبل النهضة الحقيقية في مختلف مراحل استقرارها كإطار جامع للأمة، بداية من العصر الراشدي فالأموي فالعباسي فالعثماني، حيث أثمر انضواء شعوب شتى تحت لواء الخلافة تلاقحاً للأفكار وعناية بالعلم والتعليم وازدهاراً لمختلف جوانب التقدم الحضاري والعلمي، وهو المنجز الكبير الذي بدده العالم بإسقاطه الخلافة.
ويشير إلى أن غياب الخلافة أدى إلى غياب التوازن الذي كان يحققه هيبتها، والخشية من قوة تأثير كلمة الخليفة وقدرته على حشد المسلمين تحت راية الجهاد في وجه من يستهدف الأمة؛ مما أدى إلى تدهور حقوق المسلمين، وبالذات الأقليات المسلمة، مؤكداً أن الانتصارات العسكرية الكبرى التي تحققت على أيدي الخلفاء كانت من أهم نتائج الاستقرار السياسي العالمي في ظل التدافع، الذي كان يعزز من توازن القوى والثروة.