قبل نصف قرن تقريباً، اقترح عليَّ صديق راحل أن أدرس تيار الخلافة الإسلامية في الشعر الحديث، كان سقوط الخلافة الإسلامية وإلغاؤها رسمياً في إسطنبول (1924م) بعد ثلاثة عشر قرناً زلزالاً هزّ العالم الإسلامي، وتضاربت الآراء والأفكار حول استعادتها لتوحيد المسلمين، ومواجهة تحديات الأوضاع الصعبة التي صنعها الغرب الاستعماري للمسلمين، وأثرت على الأمة تمزيقاً وتفتيتاً وفتناً لا تتوقف على كل المستويات، وقهراً يصنعه الاستبداد والتخلف والجهل، والضعف في كل المجالات.
لظروف ما لم أستطع تلبية الاقتراح في حينه بعد أن أعددت خطته، ولكنه ظل في ضميري سنوات، وبدأت أنفذه من خلال سياقات مختلفة، وعناوين أخرى، تناولتها في بعض كتبي، ومنها: «محمد صلى الله عليه وسلم في الشعر العربي الحديث»، و«القصائد الإسلامية الطوال في العصر الحديث».
وقد رأيت أخيراً بعض الدراسات التي عرجت على الموضوع من خلال البحوث الجامعية، منها: «أصداء سقوط الخلافة الإسلامية في الشعر العربي الحديث»، لماجد إبراهيم سلحب العامري، وصدر عن دار الكتاب الثقافي في إربد (الأردن)، و«الشعر وحروب الخلافة العثمانية (1342هـ/ 1924م)»، بحث دكتوراة لعبدالله بن إبراهيم بن يوسف الزهراني من كلية اللغة العربية بجامعة أم القرى في مكة الكرمة عام 1412هـ.
الشعوبية
وقد نجح الاستعمار الغربي في توطين فكرة الشعوبية داخل البلاد الإسلامية بمعنى الوطنية الانعزالية، والقومية العنصرية، ورافق ذلك ملاحقة الفكرة الإسلامية ومطاردتها بوصفها في المنظور الغربي مرادفاً للتخلف والرجعية والظلامية، والمفارقة أن حكومات الغرب استطاعت في الفترة الأخيرة أن تشوه فكرة الخلافة ووحدة المسلمين عملياً أمام النظارة؛ بإنشاء منظمات ترفع راية الإسلام وتتبنى فكرة الخلافة، ولكن في صورة دموية شرسة تخرّب دور العلم والثقافة والمعرفة، وتطبق الشريعة الإسلامية بطريقة فجة مقززة تركز على الحدود دون بقية القيم الإسلامية العظيمة، وفي الوقت نفسه تشن عمليات عسكرية تدميرية على مناطق أهل السُّنة (وحدها)، وكانت منظمة «داعش» مثالاً حياً لذلك البؤس الإنساني، الذي يتلقى تعليماته من مخابرات معادية للإسلام والمسلمين، وتُكتب خطبه بمعرفة مراكز دراسات إسلامية في «تل أبيب» وواشنطن!
النَّيْل من المصطلح
وأتاح هذا الوضع للنخب التغريبية التي تهيمن على المخ الثقافي والفكري في البلاد الإسلامية، أن تنال من مصطلح الخلافة الإسلامية بوصفه قريناً لخيال سقيم وفكر متخلف، وعودة إلى العصور الوسطى (بالمفهوم الغربي)، وصار كثير من هذه النخب يركز على فكرة الدولة الوطنية القائمة على تاريخ ما، أو عرق ما أو طائفة ما، ويرى في الحديث عن الخلافة من جهة أخرى خروجاً على الوطنية وبيعاً للأوطان!
مع أن الخلافة بمفهومها الراشد لم تلغ خصائص الجماعات التي تشكل الكيان الإسلامي؛ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13)، وقدمت صورة لما يمكن أن نسميه في عصرنا بالنظام الفيدرالي الذي يعطي كل ولاية أو جماعة تشكل كياناً خاصاً حق التعبير عن نفسها مع الحكم الذاتي، والالتزام بالقضايا الكبرى التي تتبناها السلطة المركزية؛ الخراج، الجهاد، السياسة الخارجية، المشروعات الكبرى، مع مسؤولية هذه السلطة المركزية نحو رفع المستوى المعيشي والاجتماعي في أنحاء دولة الخلافة (فصّل ذلك محمد ضياء الدين الريس في كتابه الشهير «النظريات السياسية في الإسلام»، وقد عرضت له على صفحات «المجتمع» منذ سنوات).
السياج القوي
الخلافة كانت السياج القوي الذي يحمي البلاد والعباد، ويحرص المسلمون في كل مكان على بقائه واستمراره بوصفه رمزاً لوحدتهم وتماسكهم في مواجهة خصومهم وخصوم الإسلام، وظل الحرص عليها قائماً في لحظات الضعف والانهيار بوصفها رمزاً للوحدة والتماسك الإسلامي، وقد نُقلت الخلافة العباسية إلى القاهرة عند انهيارها في بغداد، وكانت المنابر تدعو للخليفة العباسي وهو مجرد رمز يقيم في مصر تحت حماية سلطانها، وظلت كذلك حتى انتقلت إلى إسطنبول في عصر السلطان سليم الأول.
كان سقوط الخلافة على يد أتاتورك تتويجاً لجهود الحروب الصليبية والتآمر اليهودي وجهات أخرى، وتمكن أعداء الإسلام من تشويه الفكرة، وبعث القوميات العنصرية، واستطاعوا تفتيتها فيما بعد إلى وطنيات وطائفيات ومذهبيات وعرقيات كلها تطلب الانفصال عن وحدة الإسلام، حتى صارت الأمة مِزقاً وخِرقاً بالية يستهين بها العدو ويشفق عليها الصديق، وأضحى المسلمون «قصعة الأمم» كما تنبأ البشير النذير عليه الصلاة والسلام!
المأساة والحلم
أثار سقوط الخلافة في حينه كثيراً من الحزن والأسى، وتنادى المسلمون من أقصى الأرض إلى أدناها لإقامتها ومعالجة أسباب سقوطها، وكان الشعر في طليعة المعبّرين عن المأساة والحلم بتجاوزها، وتعدّدت الآراء في كيفية المواجهة.
الشاعر العظيم محمد إقبال الذي عاصر أحداث السقوط دعا من الهند (قبل تأسيس الباكستان والانتقال إليها) في كتابه «تجديد الفكر الديني»، إلى الكفّ عن النواح على الخلافة، وبناء أوطان تتبنى العدل والنظام والشورى والعلم والسعي إلى القوة، ومحاربة الفساد؛ حتى يتمكن المسلمون من اتخاذ القرار الصحيح، وبناء الأمه على أسس جديدة، لقد كان يغني لقيام مجد إسلامي جديد في شمال القارة الهندية، وعلى الرغم من حنينه الدائم للدولة المسلمة وللتاريخ الإسلامي وللحضارة الإسلامية، فإنه لم يجد في الخلافة بوضعها البائس تعبيراً عن شيء من هذا، وله قصيدة معروفة عن وحدة المسلمين وعزتهم يقول فيها:
الصين لنا، والعرب لنا والهند لنا، والكل لنا
أضحى الإسلام لنا ديناً وجميع الكون لنا وطنا
توحيد الله لنا نور أعددنا الروح له سكنا
في ظل السيف تربينا وبنينا العز لدولتنا
خالد الترك!
كان المسلمون قد انبهروا بالصورة الزائفة لأتاتورك قبل إلغائه الخلافة، لم يعلموا أنه سطا على انتصارات قادة أتراك مخلصين في مواجهة قوى الاستعمار، وتجاهلوا أنه من أبناء الدونمة (اليهود الذين أظهروا الإسلام وأخفوا اليهودية في تركيا)، وغاب عنهم أنه صنيعة بريطانيا الاستعمارية، لدرجة أن عدداً من شعراء العرب الكبار أشادوا به وعدوه خالداً بن الوليد الجديد الذي سيعيد أمجاد الخلافة القوية، ولأحمد شوقي قصيدة شهيرة يمدح بها أتاتورك:
الله أكبرُ كم في الفتح من عَجَبِ يا خالدَ التُركِ جدّد خالدَ العَرَبِ
صلحٌ عزيزٌ على حربٍ مظفرةٍ فالسيف في غمدهِ والحق في النصب
ومنها كذلك:
حذوتَ حرب الصلاحيين في زمنٍ فيه القتالُ بلا شرعٍ ولا أدبِ
لم يأت سيفكَ فحشاءً ولا هتكت قناك من حرمة الرهبانِ والصُّلُبِ
التين والزيتون!
ولكن أتاتورك فاجأ المنبهرين به، فألغى الخلافة الإسلاميّة العثمانيّة، وأعلن الجمهوريّة، وأحل العلمانية بديلاً عن الإسلام الذي كان دينًا للدولة، وشطب الشريعة والحروف العربية من الأبجدية التركية، ومنع الأذان بالعربية، وقطع كل ما له صلة بالوحي والقرآن، وأبطل المدارس الإسلامية، وقال عن القرآن: نحن لسنا بحاجة إلى كتاب يتكلم عن التين والزيتون، وأصدر «قانون القيافة» الذي يمنع النساء من ارتداء الحجاب، ويحرم على العلماء ارتداء العمامة وعلى المواطنين ارتداء الطربوش، ويفرض ارتداء القبعة والزي الإفرنجي، بالإضافة إلى أنه أخرج السلطان الأخير وسلالته من تركيا إلى المنفى.
هذا التغيير فجع كثيراً من الشعراء الذين امتدحوه، ويلاحظ أن عدداً من الشعراء قد أيَّد الثورة العربيَّة قبل إلغاء الخلافة (1916م)، ونعَى بعضُهم على الناس سُكوتهم عن مَظالم الأتراك، وأكَّدوا وُقوف الحجاز والشام مع الثورة من أمثال: عبدالمحسن الكاظمي، وعبدالمحسن الصحاف، بينما عارضها آخرون فأنصفوا الدولة العثمانية في جهادها ضد الغرب الاستعماري، ودفاعها عن البلاد الإسلامية، وناحوا على الخلافة وسقوطها، في مقدمتهم أحمد شوقي، وأحمد محرم، وأحمد الكاشف، وعبدالحليم المصري، ومحمد عبدالمطلب، وحافظ إبراهيم، ومعروف الرصافي، وشكيب أرسلان، وأحمد الفقيه، وعبدالجليل براده، وأمين ناصر الدين، وخيري الهنداوي، ومحمد سعيد العباسي.. وغيرهم.
المآذن والمنابر
لقد كانت مرثية أحمد شوقي تعبيراً عن فاجعة سقوط الخلافة بكل أبعادها ونموذجاً للشعر الباكي على مجد الوحدة الإسلامية ومآثرها، وبينت كيف تحول الشعراء العرب من الإعجاب بأتاتورك والانبهار به إلى اكتشاف حقيقته وخديعته، بل جريمته التي أصابت الأمة في مقتل:
ضجّت عليكِ مآذنٌ ومنابرٌ وبكتْ عليكِ ممالكٌ ونواحِ
الهندُ والهةٌ، ومصرُ حزينةٌ تبكي عليكِ بمدمعٍ سحاحِ
والشامُ تسألُ والعراقُ وفارسٌ أمحا من الأرضِ الخلافةَ ماحِ؟
لقد كان شوقي واعياً بأسباب الفاجعة، ومن شاركوا فيها وفي مقدمتهم من أساؤوا إلى الخلافة من أهلها، ومن ساعدوا أتاتورك، ووافقوا على إلغائها، بل ذهب إلى أبعد من ذلك حين لام نفسه على تأييد أتاتورك ومدحه في بداية الأمر، دون أن يتنبه إلى الخديعة والمأساة التي ترتبت عليها، فقال:
إنّ الذين أستْ جراحكِ حربهم قتلتكِ سلمُهُمُ بغير جراحِ
هتكوا بأيديهم ملاءةَ فخرهم موشيةً بمواهبِ الفتّاحِ
نزعوا عن الأعناقِ خيرَ قلادةٍ ونضوا عن الأعطافِ خير وشاحِ
مالي أطوقهُ الملامَ، وطالما قلدتهُ المأثور من أمداحي
هو ركنُ مملكةٍ وحائطُ دولةٍ وقريعُ شهباءٍ وكبشُ نطاحِ
أأقولُ من أحيا الجماعةَ ملحدٌ؟ وأقول من ردَّ الحقوقَ إباحي؟
الحقُّ أولى من وليّكَ حُرمةً وأحقُّ منكَ بنصرةٍ وكفاحِ
التألُّه!
لقد تطرق إلى وصف أتاتورك وسلوكه، وكيف دفع به الغرور وامتداح الناس له إلى حد التألُّه، وفعل ما لم يكن متوقعاً منه، بدعم دول الاستعمار التي ساندته في إلغاء الخلافة:
هم أطلقوا يدهُ كقيصرَ فيهمُ حتّى تناولَ كلّ غير مباح!
غرتهُ طاعاتُ الجُموعِ ودولةٌ وجدَ السوادُ لها هوى المرتاحِ
بِالأَمسِ أَوهى المُسلِمينَ جِراحَةً واليَومَ مَدَّ لَهُمْ يَدَ الجَرّاحِ!
ولضيق المجال، فإني أشير سريعاً إلى أنموذج آخر من شعراء الدفاع عن الخلافة الإسلامية، والتماهي معها ليس لأنه من أصل تركي، فكثير من الشعراء والأدباء العرب من أصول غير عربية، وكانت تربطهم رابطة الإسلام وتجمعهم وحدة العقيدة، إنه الشاعر أحمد محرم الذي يخاطب أهل الخلافة قائلاً:
يا آل عثمان من ترك ومـن عــرب وأي شعب يساوي الترك والعربا
سوسوا الخلافة بالشوري ولا تدعوا لفتنــة في نواحي الملك مضطربا
صونوا الهلال وزيدوا مجده علماً لا مجد من بعده إن ضاع أو ذهبا
لقد كان حب أحمد محرم للخلافة دافعاً له كي ينظم ملحمة «الإلياذة الإسلامية» أو مجد الإسلام، استجابة لدعوة محب الدين الخطيب بعد أن أهملها أحمد شوقي الذي عاد واستجاب لها، وكتب «دول العرب وعظماء الإسلام»، تعبيراً عن وحدة الإسلام وحلماً بعودة الخلافة القوية الظافرة التي تجمع كل العناصر والأجناس.
عتاب
وأود أن أشير في الختام إلى أن «الزجل» أو ما يسمى الآن «شعر العامية» لم يتخلف في التعبير عن ألمه لسقوط الخلافة وهجاء مصطفى كمال أتاتورك، فقد كتب بيرم التونسي بدافع ديني مع أنه لم يكن مهتماً بالقضايا الإسلامية في زجلية «خلافة بني عثمان»:
يا مصطفى اللي قاووقك(1) منفوخ فوقك
اسمع عتاب لك على ذوقك ذوق الحكام
كان كل فعلك جد متين والناس راضيين
كله إلا طرد إمام الدين والدين له إمام
خليت بلادك ألا تركة في أول حركة
وليه رجعت ألا فرنكة زي الأروام
____________________
(1) القاووق غطاء رأس تركي.