حينما ظهر مصطلح الغزو الثقافي في ستينيات القرن العشرين، كان ذلك بداية لتحول نمط الاحتلال الأجنبي؛ من احتلال الأرض، إلى غزو للعقول، واختراق التعليم، والسيطرة على الفكر والثقافة، بشكل يمكن العدو من أن يسلب حريتنا وإرادتنا بأساليب شتى.
تطورت آليات وأساليب الحرب الثقافية، وتعددت أدواتها وتكتيكاتها، بشكل مخيف، في القرن الـ21، محمولة على منصات تقدم تكنولوجي هائل وتسارع رهيب في الاعتماد على وسائل الاتصال والتواصل الحديثة.
وزاد الطين بلة -إن صح التعبير- سريان روح استسلام وإذعان وخنوع في أوصال العالمين العربي والإسلامي؛ ما أوجد حالة من «القابلية للاستعمار»، بل ربما التلذذ بالتبعية واعتبارها قدراً محتوماً لا فكاك منه.
الأخطر من ذلك، أن جيوش الغزو الثقافي باتت تدير المعركة عن بُعد، عبر شبكات إلكترونية، وعوالم افتراضية، وتطبيقات تجسسية، وذكاء اصطناعي؛ الأمر الذي منح تلك الجيوش تفوقاً كبيراً، وقدرة أكبر على سلب الإرادة، وتشكيل التوجهات، وتضليل العقول، وإخماد الوعي، في حرب إرادة وعقول، لا تبحث عن احتلال الأرض، بل احتلال الإنسان ذاته.
عبر شاشات لمس، وبصمة الإصبع، والصوت، وحدقة العين، وقراءة ضربات القلب، والموجات الدماغية، وغيرها من وسائل كانت في طي الخيال العلمي، أصبح الإنسان أسير هاتف ذكي، يشكّل وعيه، ويستنزف ماله، ويخترق خصوصياته، ويتجسس عليه، مدعوماً بوسائل تواصل وتطبيقات حديثة، مثل «فيسبوك»، و«إكس»، و«تيك توك»، و«يوتيوب» وغيرها، ممن تديرها دول عظمى وأجهزة استخبارات ولوبيات غربية وصهيونية.
إنهم يسلبون إرادتنا، ويتحكمون فيما يصل إلينا، ويحجبون ما يريدون منعه، ويزيفون الحقيقة، ويلفقون التهم، ويساندون المعتدي، ويهدرون حق الضحية، عن بُعد، ولعل ما حدث في حرب غزة، أكبر دليل على ما قدمته مواقع وتطبيقات أمريكية من دعم للظالم، وما مارسته من بغي وجور على المظلوم.
كذلك، جرى عن بُعد، النيل من اللسان العربي، وتسريب كلمات ومصطلحات أجنبية إلى عقول شبابنا من باب التمدن والتحضر، وفرض اللغة الإنجليزية كلغة أولى في العالم؛ بدعوى الحصول على الوظائف وامتيازات أخرى، بل وإهانة لغة القرآن، والسخرية منها، في أعمال فنية، صنعها المنبهرون بالاستعمار الجديد.
ومن اللغة إلى الأزياء والموضة، فرضت شركات عالمية أنماطاً جديدة من الملابس، واستعانت في سبيل ذلك بالفنانين والمشاهير، فرأينا «البنطال الساقط»، و«البنطال المقطع»، وغيره من أزياء نالت من حياء المرأة ووقار الرجل، وسط شره عنيف لمواكبة قطار الموضة، وصيحات التجميل، وثورة عالم الرشاقة والأناقة.
ولم يسلم البيت المسلم من تداعيات تلك الحرب، فقد باغته الغزاة، ونالوا من حصونه، وفرضوا عليه نمطاً استهلاكياً يغذي تجارتهم، ويدر عليهم المليارات، عبر إفشاء ثقافة «أوردر» و«تيك أواي»، التي أزعم أنها باتت نمطاً معيشياً لا يتوقف عند حدود الطعام فقط، بل تمدد وتوسع إلى مجالات الاقتصاد والعلم والمعرفة وغيره.
لا أبالغ حينما أضع بين أيديكم تلك الحقيقة، وهي أن جيوش الغزو الثقافي دمرت حصوناً دينية وعقائدية ووطنية، حينما غزت مناهج التعليم، وأفسدت مجال الفن، وتلاعبت بأهل الفكر، واستأسدت على رجال الدين، تحت مسميات عدة من نوعية تجديد الخطاب الديني، ومكافحة التطرف، ومواجهة الإرهاب، وتطوير التعليم، ومسايرة الحداثة.. وغيره.
حتى أحلام الصغار والكبار تعرضت لتمييع ومسخ، بعد أن أصبح رموز الأمة ممن يشار إليهم بما حققته الأقدام لا الرؤوس، فيصبح لاعب كرة «فخر العرب»، وعلى دربه يسير الملايين، يحذون حذوه؛ أملاً في وضع الكرة في الشباك!
الأمر في حاجة إلى «مرصد» لرصد وتعقب ونقد الأساليب والخطط والسياسات والممارسات المعلنة والسرية لفرض الثقافة الغربية على مجتمعاتنا العربية والإسلامية، بما تتضمنه من عادات ولغات وأخلاقيات ومظاهر حياتية وسلوكية وغيره.
وعلى الأمة بدعاتها ومفكريها وإعلاميِّيها وأهل الرأي فيها، التصدي لذلك الغزو، والعمل على التحرر من مظاهره، وإقامة منصات متطورة لنشر الوعي، وإفشاء ثقافة المقاومة لدى الشعوب، وتعزيز روح الهوية لدى الأجيال الجديدة، التي قد تظن أنها مع التقليد والمحاكاة ستنتقل إلى مصاف المتحضرين من الشعوب والأمم.
بموازاة ذلك، على مؤسسات الأمة العمل على تعزيز التكاتف فيما بينها، والحيلولة دون استخدام سياسة تقديم القروض والمساعدات والمنح لتمرير مخططات الغزو الثقافي والفكري، والعمل على تحقيق التكامل الاقتصادي، وإنجاح السوق العربية المشتركة، وتحرير التبادل التجاري بين الدول العربية والإسلامية، وإعادة الروح لمؤسسات مثل جامعة الدول، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، للقيام بدورها الحقيقي في تعزيز وحدة الأمة وهويتها.
بل من الأجدر أن نتحول من حالة الدفاع إلى الهجوم، عبر تصدير ثقافتنا إلى الخارج، ونقل إنتاجنا الفكري والثقافي إلى ميادين اللغات الأخرى، وإشاعة تقاليدنا وسلوكياتنا التي حث عليها الإسلام في أرجاء الأرض، وإيجاد حالة من الزخم والعناية والاهتمام بتاريخنا ومنجزاتنا الحضارية، وإطلاق موجات جديدة من التقدم والنهضة، تمهد الأرض لغزو عربي وإسلامي جديد، ليس بالسلاح، لكن بالعلم والفكر والوعي والاقتصاد والفن الهادف، وغير ذلك من مقومات القوة، حتى نعود أسياداً للأمم، قادة للشعوب.