لا تزيد المساحة المأهولة من محافظة رفح على 20 كيلومتراً مربعاً، من أصل 63 كيلومتراً مربعاً تشكل مساحة المحافظة الجنوبية الخامسة لقطاع غزة، حيث يقيم فيها قرابة 1.4 مليون مواطن فلسطيني، جلهم من النازحين إليها من مدينة غزة والشمال، ومن مخيمات المنطقة الوسطى وبعض سكان محافظة خان يونس، من الذين ظنوا أنها ستكون منطقة آمنة، لا خطر فيها ولا حرب عليها، بعد أن أعلن جيش الاحتلال أنها مناطق آمنة، ولن تشهد عمليات عسكرية، ودفع المواطنين الفلسطينيين بقوة السلاح وكثافة القصف والغارات، إلى الانتقال إليها والإقامة فيها، بعد أن قصف مناطقهم ودمر بيوتهم وخرب مناطقهم.
اليوم تستهدف هذه المحافظة الفلسطينية الجنوبية الكريمة الشهمة النبيلة، التي استضافت أبناء شعبها، واحتضنت أهلها، وكانت لهم كأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، بشاشةً وترحاباً، وحسن استقبال وكريم وفادة.
قاسمتهم البيوت والمساكن، وأفردت لهم من الأرض ما يسعهم ويؤويهم، ويسَّرت لهم سبل الإقامة فيها، والعيش بين أبنائها، رغم ضيق المكان، وقلة ذات اليد، وانعدام الطعام والشراب ومختلف سبل العيش ولوازم الحياة البسيطة، وتعذر الإقامة فيها في ظل القصف والغارات «الإسرائيلية» الكثيفة.
إلا أنها رحبت بهم واستضافتهم، وأكرمتهم وآوتهم، وقاسمتهم كسرة الخبز إن وجدت، وشربة الماء التي يتعذر الحصول عليها، ولم تبخل عليهم بشيء مما بقي لديها، ولا من النزر اليسير الذي يصلها، رغم أن الذي يصلها لا يكفي سكانها الأصليين فضلاً عن إغاثة وتموين الوافدين إليها، ممن لا يملكون غطاءً أو ثياباً، ولا خيمةً أو مكاناً للإقامة.
اليوم يروم بها العدو «الإسرائيلي» شراً، ويستبطن لها أمراً، ويتهيأ لاجتياحها والهجوم عليها، وهو يعلم كما العالم كله، أنها باتت مكتظة باللاجئين، ومزدحمة جداً بالمقيمين، وأنه لم يعد فيها متسعٌ لقدمٍ تمشي ولا لجسدٍ يرتاح، فالخيام متراصة، والأكواخ متلاصقة، وما بقي من البيوت والمنازل تغص بالمقيمين فيها، الذين شغلوا الغرف والمحال والمخازن والمستودعات ومرائب السيارات وأمام المستشفيات وفي المدارس والساحات وكل شبرٍ من الأرض، ولعل الصور الفضائية تظهر الواقع كما هو، بما لا يستطيع أن ينكره أحد، أو أن ينفيه ويتجاهله عدو، فليس في الصور مبالغة أو تهويل، ولا تزوير أو تدليس.
يعلم العدو الذي يحشد قواته شرق المحافظة وقبالة شواطئها، ويتهيأ لاجتياحها والدخول إليها، أن صواريخه المدمرة قد تودي بحياة آلاف الفلسطينيين، وأن حجم المجازر التي قد يرتكبها بعدوانه ستكون مهولة، وأكبر من أن يستوعبها العالم، ولعله لا يبالي بحجم المجازر التي سيرتكبها، ولا المذابح التي سينفذها، فهي جزءٌ من مخططاته، وهي تعبيرٌ عن سياساته، وبيانٌ عن جبلته التي فُطِرَ عليها وغَذَّاها بأفكاره العنصرية ومعتقداته الفاسدة، التي تدعو للقتل والحرق والتدمير والإبادة.
كان الفلسطينيون يعلمون أن العدو «الإسرائيلي» كاذبٌ ومخادع، وأنه خبيثٌ ماكر، وأنه لا يصدق في أقواله ولا يفي بالتزاماته، وأنه لا يلتزم بوعوده أبداً، ولا تعنيه حياة المواطنين الذين قتلهم، ودمر مقومات حياتهم، وخطط لإخراجهم من مناطقهم، وتهجيرهم من أرضهم، فقد كان يمارس عدوانه ضمن مخططاتٍ مدروسة، وبرامج معدة، ونوايا مبيتة، وكان الفلسطينيون الذين يدركون طبيعته ويفهمون سياسته، يعلمون أنه سيواصل عدوانه، وسيستمر في عملياته العسكرية، وأنه لن يستثني منطقة ولا مدينة، ولن يحترم ميثاقاً أو يلتزم نظاماً، ولن يضمن أمناً أو يحفظ حياةً، كما لن يصغي لناصح ولن يخضع لتهديد بالكلام أجوف.
ربما تعطي الإدارة الأمريكية الحكومة «الإسرائيلية» الضوء الأخضر لتنفيذ عمليتها العسكرية في محافظة رفح، بعد وعودٍ كاذبةٍ مكرورةٍ، وتعهداتٍ وهميةٍ غير حقيقية، لا قيمة لها ولا وزن، ولن تتمكن من حماية المدنيين أو تجنب قصفهم، لكن هل يستمر الصمت العربي المشين إزاء هذه المذبحة المرتقبة والمجازر المتوقعة، ولا يحركون ساكناً أو يهددون فعلاً، أم أنهم سيهبون هذه المرة بعد مضي أكثر من أربعة أشهرٍ على العدوان، لنجدة من بقي من أهل غزة وحمايتهم، ونصرة من لجأ لهم وانتسب إليهم، ويكون لهم موقفٌ ولو أنه متأخر، يكبح العدو ويلجمه، ويرغمه ويردعه، نصرةً لشعبٍ مظلومٍ وأطفالٍ يقتلون، واستجابةً لأهلٍ يستصرخون وشبانٍ في الشوارع يعدمون.