في إطار الدراسات الغربية حدث خلط كثير وغريب -بل مريب- بين الجهاد الإسلامي والحرب المقدسة التي عرفتها ومارستها الكنيسة الغربية في العصور الوسطى سواء ضد العالم الإسلامي؛ الحروب الصليبية (489- 690هـ/ 1096- 1291م)، أو الحروب الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت (القرنين السادس عشر والسابع عشر)، أو محاكم التفتيش التي مارستها الكنيسة ضد المخالفين لها على امتداد ثلاثة قرون.
حدث هذا الخلط بين الجهاد الإسلامي الذي هو بذل الوسع والطاقة في أي ميدان من ميادين الحياة، وبين الحرب الكنسية المقدسة التي هي حرب دينية لإكراه الآخرين في الدين والاعتقاد والمذهب، لكن المستشرقة الألمانية د. سيجريد هونكه كانت واحدة من أعلام علماء الغرب الذين أدركوا الفوارق الجوهرية بين الجهاد الإسلامي وتلك الحرب الكنسية الدينية المقدسة، فكتبت تقول:
«إن الجهاد الإسلامي ليس هو ما نطلق عليه -ببساطة- مصطلح الحرب المقدسة في الجهاد؛ فالجهاد هو كل سعي مبذول، وكل اجتهاد مقبول، وكل تثبيت للإسلام في أنفسنا، حتى نتمكن في هذه الحياة الدنيا من خوض الصراع اليومي المتجدد أبدًا ضد القوى الأمارة بالسوء في أنفسنا في البيئة المحيطة بنا عالميًّا، فالجهاد هو المنبع الذي لا ينقص، والذي ينهل منه المسلم مستمدًّا الطاقة التي تؤهِّله لتحمل مسئوليته، خاضعًا لإرادة الله عن وعي ويقين. إن الجهاد بمنزلة التأهب اليقظ الدائم للأمة الإسلامية للدفاع، بردع كافة القوى المعادية التي تقف في وجه تحقيق ما شرعه الإسلام من نظام اجتماعي إسلامي في ديار الإسلام».
وبعد هذا التعريف للجهاد، الذي يميز بينه وبين القتال ويباعد بينه وبين الحرب الكنسية الدينية الغربية المقدسة، أخذت د. هونكه في انتقاد ذلك الخلط الغربي بين هذين الأمرين فقالت: «.. واليوم، وبعد انصرام ألف ومائتي عام لا يزال الغرب النصراني متمسكًا بالحكايات المختلفة الخرافية التي كانت الجدات يروينها، حيث زعم مختلقوها أن الجيوش العربية بعد موت محمد نشرت الإسلام بالنار وبحد السيف البتار من الهند إلى المحيط الأطلنطي، ويلح الغرب على ذلك بكافة السبل: بالكلمة المنطوقة أو المكتوبة، وفي الجرائد والمجلات والكتب والمنشورات، وفي الرأي العام بل في أحدث حملات الدعاية ضد الإسلام.
(لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (البقرة: 256) تلك هي الكلمة الملزمة في القرآن، فلم يكن الهدف أو المغزى للفتوحات العربية نشر الدين الإسلامي، وإنما بسط سلطان الله في أرضه، فكان للنصراني أن يظل نصرانيًّا، ولليهودي أن يظل يهوديًّا، كما كانوا من قبل، ولم يمنعهم أحد أن يؤدوا شعائر دينهم، وما كان الإسلام يبيح لأحد أن يفعل ذلك، ولم يكن أحد لينزل أذى أو ضررًا بأحبارهم أو قساوستهم ومراجعهم، وبيعهم وصوامعهم وكنائسهم.
لقد كان أتباع الملل الأخرى -وبطبيعة الحال من النصارى واليهود- هم الذين سعوا سعيًا لاعتناق الإسلام والأخذ بحضارة الفاتحين، ولقد ألحوا في ذلك شغفًا وافتتانًا أكثر مما أحب العرب أنفسهم، فاتخذوا أسماء عربية وثيابًا عربية وعادات وتقاليد عربية واللسان العربي، وتزوجوا على الطريقة العربية، ونطقوا بالشهادتين، لقد كانت الروعة الكامنة في أسلوب الحياة العربية والتمدن العربي، والسمو والمروءة والجمال -وباختصار: السحر الأصيل الذي تتميز به الحضارة العربية، بغض النظر عن الكرم العربي والتسامح وسماحة النفس كانت هذه كلها قوة جذب لا تقاوم».
هكذا تحدثت وشهدت هذه العالمة الجليلة د. هونكه صاحبة الكتب المتميزة: «شمس الإسلام تشرق على الغرب»، و«العقيدة والمعرفة»، و«الله ليس كذلك»، تحدثت وشهدت على أن الجهاد الإسلامي أوسع بكثير جدًّا من القتال، وأنه مخالف ومغاير ومناقض للحرب الدينية المقدسة التي عرفها الغرب، وأشعلتها الكنيسة الغربية.
كما شهدت على أن الإسلام قد انتشر بالسلم، وأن الآخرين -الذين حرر الإسلام أوطانهم وضمائرهم- هم الذين عشقوه، ورغبوا فيه؛ فدخلوا في دين الله أفواجًا.
_____________________
المصدر: مركز الوفاق الإنمائي للدراسات والبحوث.