يترقب المسلمون قدوم شهر رمضان المبارك، ويتنسمون عطره قبل مجيئه شوقًا إليه، ودعاءً أن يبلغهم الله صيامه وقيامه وتلاوة قرآنه، وعلى طريق الترقب لشهر الذكر الحكيم نقدم للقارئ العزيز بعضاً من إشراقات تلاوة الوحي الكريم، عسى أن تكون مفتاحًا له لصفحات الذكر والنور المبين في التلاوة والذكر والبيان.
1- الهدايات الأربع:
من أبسط الطرق وأكثرها ارتباطًا بمقاصد القرآن الكريم ومعرفة غاياته واكتشاف جواهره، طريقة الهدايات الأربع، وتتلخص في أن يقف القارئ للقرآن على هدايات القرآن الأربع: هداية العقل والمعرفة، هداية الوجدان، هداية السلوك والجوارح، هداية الاجتماع والنظم، ويدوَّن ذلك في دفتر خاص بالقرآن، ويقسم هذا الدفتر إلى أربعة أقسام بحسب أقسام هذه الهدايات تتضمن الآيات والمعاني والخواطر التي يكتشفها القارئ بنفسه في كل مجال من هذه المجالات الأربعة، أما مضمون هذه الهدايات فيمكن توضيحه فيما يلي:
– هداية العقل والمعرفة: ويتعلق مضمونها بإجابات القرآن عن تساؤلات الخلق والمصير والخالق سبحانه وتعالى، كما تتعلق بمركزية العقل في التكليف والتفكير والترجيح للإنسان على باقي المخلوقات، وكذلك العلم، والسنن، وما إلى ذلك.
– هداية الوجدان: ويتعلق مضمونها بإجابات القرآن التي تتعلق بالروح والأشواق العليا، والتوازن في الانفعالات، وما إلى ذلك مما يتعلق بمشاعر الحب والحزن والخوف والاطمئنان، والموقف الوجداني الأمثل للإنسان كما يريده القرآن.
– هداية السلوك والجوارح: ويتعلق مضمون هذه الهداية بإجابات القرآن وتعاليمه التي تتعلق بمكونات الجسد الإنساني، العين، السمع، الأذن، الفرج، اللسان، اليد، والقدم، وهو ما خطها القرآن في مواضع عديدة، منها عباد الرحمن، ووصايا لقمان، وما يتعلق بهذه المعاني والقيم.
– هداية الاجتماع والنظم: وتتعلق بعلاقات الإنسان بنفسه وبالآخرين وبالطبيعة، وهذه من المقاصد الرئيسة للقرآن التي تدعو إلى قيام العلاقات في الكون على أساس من الانسجام والتوافق والتناغم، كما يخلو الأمر من المدافعة حين يختل النظام الكوني ونظام العلاقات بين البشر.
كما تتعلق هذه الهداية بالنظم الاجتماعية التي شيد القرآن أسسها للبناء الاجتماعي سواء تعلق ذلك بالنظام التربوي أو الاقتصادي أو الأسري أو السياسي أو غير ذلك مما عرفته العلوم الاجتماعية الحديثة، فالقرآن لم يدع إلى العشوائية في الحياة أو ترك تنظيمها كلية لرغبات الأفراد أو السلطة أو الثروة وتقلباتهم، ولكن القرآن يقوم على المؤسسية ويتضمن أسساً هادية للنظم الاجتماعية التي يحتاج إليها الإنسان في حركة حياته وشؤون الاستخلاف والعمران.
2- (مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا) (البقرة: 170):
ذم القرآن مبدأ الانصياع إلى آراء السابقين دون بصيرة ونظر وتدقيق، حتى وإن كان هؤلاء السابقون الآباء والأجداد، واعتبر التقليد ساترًا عن إدراك الحق والحقيقة بأشكالها واعتباراتها المختلفة، وأكد حرية التفكير، بل وجوبه في الوصول إلى الحقيقة المنزه عن التحيز والهوى (التقليد)، ولا وكالة في تلك المعرفة، لا سيما إذا كانت تتعلق بمسألة الكفر والإيمان، ومهما كانت تلك السلطة وقوتها التي تمارس القهر المعرفي من أجل تقليدها: سلطة الآباء، سلطة العرف والعادة، سلطة الكهنة، أو غير ذلك؛ لذا قرر العلماء أنه: لا تقليد في الإيمان.
3- (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ) (الحج: 40):
يؤكد القرآن أن مدافعة الباطل الطريق الوحيد لحفظ السلام الإنساني وصلاح الإنسان والعمران، وذلك حتى لا تهيمن القوة الظالمة على حركة الناس، ويطالبوا بالاستسلام لها، وتكون فتنة لهم، إذ إن الشر لو لم يجد من يدافعه لطغى على حياة الناس وأفسد الأرض والعبادة وحركة العمران، لذلك شرع الله المدافعة للمحافظة على ثبات الأرض وصلاحها وعمرانها، بل أوجب ذلك على عباده المؤمنين المخلصين في عبادتهم المطيعين لأوامره والواقفين عند نواهيه، قال تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً) (الحج: 40).
4- هلاك الأمم:
لا يرتبط هلاك الأمم في القرآن بضعف القوة المادية، أو قلة الإمكانات الطبيعية، وإنما يتعلق بضعفها القيمي والأخلاقي والمعنوي، اقرأ قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ {6} إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ {7} الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ {8} وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ {9} وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ {10} الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ {11} فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ {12} فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ) (الفجر).
5- حق الامتلاك:
من الحقوق الأساسية التي أقرها القرآن حق الامتلاك، وهو ما يتوافق مع جبلة الإنسان، لكن هذا الحق ليس على إطلاقه، وإنما مشروط بتحقيق النفع والنهي عن التبديد للملكية؛ (وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً) (النساء: 5)، وهذا على خلاف ما تقرره القوانين الوضعية التي تبيح تبديد الملكية في أي صورة كانت دون مساءلة، وهو ما يعود بالضرر على الفرد والمجتمع والمال نفسه.
6- صفحة الطبيعة في القرآن:
يرتبط الإيمان في القرآن بصفحة الطبيعة ارتباطًا واضحًا، حيث الدليل والآثار على وجود الله تعالى وقدرته وخلقه للكون وما فيه ومن فيه، ولهذا جاءت هذه الأفعال الآمرة بصورة كثيفة: «سيروا، انظروا، انظر، فانظر، فارجع البصر..»، والتعجب من الانصراف عن تلك الأوامر: «أفلم ينظروا؟! أفلا ينظرون؟! أفلم يسيروا؟!»، كما جاءت ألفاظ السماوات والأرض بصورة واضحة وملحوظة في هذا الكتاب الحكيم وحفظ الإنسان إلى التأمل فيهما بغرض دعم الإيمان من ناحية، والتوظيف لمهمة الاستخلاف من ناحية أخرى، من الضروري إعادة اكتشاف صفحة الطبيعة من الضروري في المنظور القرآني، كي يستقيم إيمان المسلم ويثبت ويتطور في العمل العمراني.
7- حركة التاريخ:
يقرر القرآن أن المسلم لا يقوم بدور المتفرج في حركة التاريخ، بل هو الذي يوجه هذا التاريخ ويصنعه، ويعيد مساره إذا انحرف عن وجهته الإيمانية التي يعتقد فيها، فالمسلم شاهد وشهيد على التاريخ، ويعلم يقينًا أن الله يبصر به في تلك الحركة وهذه الشهادة: (إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (فصلت: 40).
8- عامل الدقة والتناسق في الكون:
من هداية العقل والمعرفة في القرآن عامل الدقة والتناسق في الكون، وهو ما توجهت إلى القول به الفيزياء الجديدة، أو ما يسمى الآن بثورة الفيزياء، التي تحول فيها النظر إلى الكون من كون قائم على الفوضوية والعشوائية والصدفة، إلى كون قائم على الغائية، وهو ما أوضحه القرآن منذ خمسة عشر قرنًا، يقول القرآن:
– (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) (الفرقان: 2).
– (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ) (يونس: 5).
– (وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ) (الرعد: 8).
– (أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا) (الرعد: 17).
– (مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) (عبس: 19).
– (وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ) (الحجر: 21).
– (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا) (الأنعام: 96).
(الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) (الرحمن:5).
– (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا) (المؤمنون: 115).
– (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ) (الدخان: 38).
يتبع..