شهد تاريخ المسلمين حقبة زاهرة من خلال الحكم العثماني الذي استمر لأكثر من 600 عام، وكوَّن إمبراطورية دان لها العالم، وبعد سقوطها والقضاء على الخلافة العثمانية في العام 1924م، لم يعد للمسلمين دولة توحّدهم، وباتت خسارتهم باهظة التكاليف، ليس على المستوى الاقتصادي فحسب، بل السياسي والاجتماعي والثقافي كذلك.
كان الاقتصاد العثماني اقتصاداً فريداً من نوعه، وإن اعتراه ضعف في بعض فتراته خاصة منذ القرن السادس عشر؛ وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى انهيار تلك الإمبراطورية المترامية الأطراف، الحاملة للواء الإسلام، وأصبح المسلمون من بعدها يتامى في وادي الذئاب الذي صنعه المستعمر الغربي على يديه!
لقد تميز العثمانيون في إدارة ميزانية الدولة؛ إيراداً وإنفاقاً، من خلال موارد أساسية كالزكاة والجزية والخراج، فضلاً عن موارد مساعدة من ضرائب ورسوم، من خلال وزارة متخصصة؛ مما مكّن من توفير السيولة اللازمة للدعم الحربي وتحقيق الفتوحات المنشودة، كما كان لـ«الوقف» دوره المنشود، لا سيما في دعم التعليم والصحة.
الناتج الزراعي العثماني كان يحقق الاكتفاء الذاتي ويتجه جزء منه للتصدير
والناظر إلى الأنشطة الاقتصادية في الدولة العثمانية يجد أن الناتج الزراعي كان يحقق الاكتفاء الذاتي، بل يتجه جزء منه للتصدير، وقد كانت معظم أراضي الدولة العثمانية أراضي «ميرية»؛ أي خراجية ملكيتها لبيت مال المسلمين، مع منح الحق للرعية بإيجارها أو إعارتها ببدل يُدفع لبيت المال يسمى «العشر»؛ وهو خراج المقاسمة الذي طبقه الرسول صلى الله عليه وسلم على الخارج من أرض خيبر، وإن كان توزيع الخارج في خيبر يتم مناصفة.
وبذلك تميز هذا النظام بالعدالة بعيداً عن النظام الإقطاعي الذي كان يسود أوروبا ورسخ للسُّخرة والظلم الاقتصادي، فالنظام الزراعي العثماني كان يعتمد على نظام «التيمار» الذي يعين أسلوب العمل في الأرض وتشغيلها، والوضع الحقوقي للمزارعين والمشرفين على العمل، ونظام الضرائب.
النشاط التجاري
أما التجارة، فرغم ما اتسم به المجتمع العثماني بالمقدرة القتالية، فإنه لم يهمل التجارة، فصرفت الدولة رؤوس الأموال لبناء القواعد الأساسية للبنى التحتية للنشاط التجاري، واهتم السلاطين أنفسهم وكبار رجال الدولة بتعزيز ذلك النشاط، وعلى سبيل المثال؛ حينما فتح الغازي أورخان مدينة بورصة أنشأ مباشرة سوقاً تجارية، كما أن السلطان محمد الفاتح بعد أن فتح القسطنطينية أنشأ سوقاً تجارية ما زالت موجودة حتى وقتنا الحاضر؛ وهي السوق المسقوفة وسط إسطنبول، كما أن المدن العثمانية الكبيرة تميزت بأسواقها مثل فليلة وسراي بوسنة وأسكب وسلانيك.
الدولة صرفت رؤوس الأموال لبناء القواعد الأساسية للبنى التحتية للنشاط التجاري
بل إن الدولة العثمانية حرصت في سياستها لإنعاش التجارة على العناية بأهلها من أصحاب الخبرة والمهارة من خلال جمعهم بالمدن الكبيرة، مثل إسطنبول التي انتقل إليها تجار من بورصة والقاهرة، وكذلك سلانيك التي سكنها اليهود الذين فروا من «محاكم التفتيش» بالأندلس، وكانت من أغنى مراكز الإمبراطورية العثمانية وأنشطتها التجارية.
كما أنه لا يمكن إغفال الموقع الجغرافي للدولة العثمانية في تعزيز تجارتها الخارجية وإنعاش التجارة العالمية، فقد كانت الإمبراطورية العثمانية جسراً بين دول الشرق والغرب، كما أنه رغبة في تنشيط الحركة التجارية منحت الدولة العثمانية امتيازات للتجار الأجانب؛ وقد كان هذا مسماراً دُق في نعش الدولة العثمانية لا سيما في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر؛ فمن خلال هذه الامتيازات أصبح التاجر الأجنبي أولى بالرعاية من مثيله العثماني؛ مما ساهم في هيمنة التجار الأجانب والأقليات غير المسلمة على النشاط التجاري.
أما الصناعة، فقد غطت الحاجة المحلية، وصدرت منه للخارج حتى أواخر القرن الثامن عشر، ومثال ذلك الاكتفاء الذاتي من النسيج وتصدير كميات كبيرة من المنسوجات إلى الخارج، كما أن الدولة العثمانية تميزت بالصناعة الحربية لا سيما صناعة المدافع، فضلاً عن توسع هذا النشاط الصناعي من خلال تصنيع الخيوط والبسط والجلود والأخشاب والخزفيات والنحاسيات والحديد والسكاكين والسيوف والمسدسات والبنادق والخياطة والأحذية والذهب والفضة.
ويمكن القول: إن التطور الصناعي للدولة العثمانية مر بمرحلتين؛ مرحلة التصنيع وأسلوب الإنتاج النمطي التقليدي المتوارث، ومرحلة النمط الحديث بعد الثورة الصناعية في الغرب، التي قلبت الموازين ضد منافسة العثمانيين للغرب لا سيما في أواسط القرن التاسع عشر، رغم اتجاه الدولة العثمانية إلى تشجيع إقامة مؤسسات صناعية كبيرة، وفق الإنتاج المتطور في الغرب.
الصناعة غطت الحاجة المحلية وصدَّرت للخارج حتى أواخر القرن الثامن عشر
ولكن التسارع الصناعي الغربي كان أكثر قوة وانتشاراً؛ فاجتاحت السلع الغربية الأسواق العثمانية، ودحرت المنسوجات الأوروبية القطنية نظيرتها العثمانية في عقر دارها، وتحولت الدولة العثمانية إلى مورد للمواد الأولية للصناعة الغربية لا سيما القطن والحرير والصوف، وساهم في هذا الضعف؛ ضعف الدولة بصفة عامة في ظل عصيان محمد علي باشا (والي مصر) وتقديم الدولة تنازلات للغرب بمزيد من الامتيازات للأجانب من خلال إجازة اتفاقية تجارية عام 1838م، بدلت بمقتضاها قوانين الجمارك المقلصة لأرباح التجار الأجانب، وألغت القيود المفروضة على استيراد السلع الغربية وتصدير السلع العثمانية.
المصيبة الكبرى!
وجاءت بعد ذلك المصيبة الكبرى، ففي عام 1854م وخلال حرب القرم، بدأت الدولة العثمانية في عهد السلطان عبدالمجيد الأول بيع سندات طويلة الأجل في الأسواق المالية الأوروبية، وفي العقدين التاليين توسع الاقتراض بمبالغ كبيرة من لندن وباريس وفيينا وأماكن أخرى بشروط لا تتفق ومصلحتها بشكل مطرد، وأدت الأزمات المالية عام 1873م إلى توقف الإقراض من قبل الأسواق المالية الأوروبية، كما أجبرت الحكومة على إعلان التوقف التام عن سداد القروض عام 1875 – 1876م (في عهد السلطان عبدالعزيز الأول) التي بلغت قيمتها 200 مليون جنيه إسترليني.
وبعد مفاوضات مطولة، تم إنشاء إدارة الديون العمومية العثمانية عام 1881م (في عهد السلطان عبدالحميد الثاني) لممارسة السيادة الأوروبية على أجزاء من مالية الدولة، ولتأمين استمرارية سداد الدين الذي تم تخفيض قيمته الإسمية بحوالي النصف خلال المفاوضات.
الاقتراض الخارجي وامتيازات الأجانب أديا إلى ضعف الدولة وإفلاسها ثم انهيارها
وخلال العقود الثلاثة التالية، وحتى إعلان الحرب العالمية الأولى، كان جزء كبير من عائدات الدولة تحت سيطرة إدارة الديون، وقد استخدم لسداد القروض، وعشية الحرب العالمية بلغ حجم الاقتراض السنوي، وكذلك حجم الدين الخارجي القائم مجدداً النسب العالية غير العادية التي شهدتها الدولة في سبعينيات القرن الماضي.
وكان من نتيجة فتح باب الاقتراض الخارجي لأول مرة في عهد عبدالمجيد الأول بروز المزيد من الامتيازات للأجانب وضرب سيادة الدولة؛ وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى ضعفها وإفلاسها ثم انهيارها فيما بعد في العام 1924م.
وبذلك زالت شمس تلك الإمبراطورية العظيمة بأخطاء بعض سلاطينها، رغم ما حققته في أوج عزها من قوة ورفعة للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وبعدها صار حال بلادنا كحال القطيع الذي يهيم في الصحراء باسم الدولة القومية التي خطط لها ونفذها «سايكس» و«بيكو»، ورغم هذا الجرح وهذا الألم ما زال الأمل معقوداً ليعيد التاريخ نفسه ويعود للمسلمين مجدهم وعزهم.