كلما مر عليها يوم ازدادت شوقاً إليه، وشعرت بالحنين له، وزاد استعدادها لاستقباله وقد خفق قلبها خوفاً من ألا تدركه، فقد تعودت على زيارته لهم، وها هي تنتظر بلهفة قدومه المميز، وتُسابق الوقت في إعداد ما يحتاجه هذا الضيف القادم من صنوف الإجلال والإكرام، حيث يأتيهم ويزورهم مرة واحدة في العام.
وكطفلة صغيرة أخذت تعد على أصابعها الأيام؛ لتعرف كم تبَقّى عليه حتى يأتيهم زائراً كريماً، يسعى جميع مَن في البيت لتكريمه والاحتفاء به، ولقائه بما يليق من أعمال خاصة وأقوال طيبة هي من لوازم وجوده بينهم، ودلالة على مكانته في قلوبهم وشرف منزلته عندهم، فبقدومه تحل البركات، وتحلو الأوقات، وتهل البشريات.
مقدمات الزيارة
ولِمَ لا تكون للزيارة مقدمات واستعدادات، وضيفهم القادم هذا هو المكرم مِن بين سائر إخوانه عند الله، وقد اصطفاه ليخصه بنزول وحيه وكلامه، فهو شهر القرآن، وشهر الصيام والقيام والإحسان.. شهر رمضان، خير الشهور وأفضلها على الدوام؟!
فرمضان هذا الذي ننتظره بلهف وشوق، تسبقه مقدمات وتظهر قبل زيارته إرهاصات، ليتأهل المحبون له بالاستعدادات الخاصة من رياضات النفوس وطهارة القلوب؛ حتى يأتيهم وقد تأهبوا له، ولا يفاجئهم بحضوره، فقبل أن يحل زائراً فإنه يسبقه اثنان من إخوانه، هما رجب وشعبان، حيث يمهدان له الطريق، وينبئ مجيء كل منهما عن اقتراب اللقاء السنوي برمضان، وعلى ضرورة المسارعة بالاستعداد للقياه وانتظار مقدمه كي لا يحضر والناس نيام غافلون، أو لاهون لاعبون، أو لأوقاتهم مضيعون، وحتى يكون للجميع متسع من الوقت الكافي للتخلية والتحلية.
التخلية للقلوب من الشرك والرياء والأحقاد والبغضاء، وتطهيرها من رجز المعاصي، وعلاجها من درن الذنوب، ومداواتها من آفاتها المهلكة المميتة، وقد رغبنا النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك قبل دخول رمضان لنستقبله بقلب سليم، فقال: «في ليلة النصف من شعبان يغفر الله لأهل الأرض، إلا لمشرك أو مُشاحن» (صححه الألباني).
أما التحلية فتحصل بكل ما يزكي النفوس من الأعمال التي يحبها الله ويرضاها، ونثر بذور الخيرات فيها لتنمو وتثمر، وقد قيل: إن رجب شهر زرع هذه البذور، وشعبان شهر السقي لها وريّها، أما رمضان فهو شهر الحصاد لثمارها الحلوة للتزود منها خلال العام، والمؤمنون هم قُطَّاف هذه الثمار، فهل من مشمر لهذا القطاف الطيب من الآن؟
الاستعداد
ومع ظهور هلال شعبان يقترب المحبون من رمضان أكثر وأكثر، فيجعلون من أيام شعبان فرصة للتدريب لهم على اغتنام الأوقات والإكثار من الطاعات، والتنافس في الخيرات، قال ابن رجب، في «لطائف المعارف»: «ولما كان شعبان كالمقدمة لرمضان شُرع فيه ما يُشرع في رمضان من الصيام وقراءة القرآن ليحصل التأهب لتلقي رمضان وترتاض النفوس بذلك على طاعة الرحمن».
غير أن البعض قد ينشغل عن ذلك في شعبان فلا يشعر إلا وقد دخل عليه رمضان وهو في غمرة الانشغال بدنياه، ما صام ولا قام، ولا جدد التوبة، ولا أكثر من تلاوة القرآن؛ ففوَّت على نفسه الخير الكثير، وقد لفت النبي صلى الله عليه وسلم أنظارنا لذلك وبيَّن لنا بفعله وقوله فضيلة العمل في شعبان، فعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قلت: يا رسول الله، لمْ أرَكَ تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان! فقال: «ذاك شهر تغفل الناس فيه عنه، بين رجب ورمضان، وهو شهر تُرفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، وأحب أن يُرفع عملي وأنا صائم» (رواه النسائي).
فشعبان شهر فضيل، ويكفيه فضلاً اتصاله برمضان، ومن قبله رجب شهر الله الحرام، فينبغي لكل مسلم أن يعرف له فضله ومكانته فلا يغفل عنه، بل يكثر فيه من الطاعات، ويطهر قلبه من الأمراض؛ حتى تُرفع أعماله إلى الله عز وجل ولا تُرد.
وقد ذكر ابن الجوزي في كتابه «التبصرة» أن الأوقات التي يغفل الناس عنها عظيمة القدر لاشتغال البعض فيها بالعادات والشهوات، فإذا ثابر فيها العبد على الطاعة دل على حرصه على الخير، ولهذا فُضِّل شهود الفجر في جماعة لغفلة كثير من الناس عن ذلك الوقت.
اللهم بلِّغنا رمضان
«اللهم بلِّغنا رمضان»؛ إنه دعاء عظيم يستحق منا الإلحاح فيه، والإكثار منه، والتوجه إلى الله عز وجل بصدق في طلبه، لا سيما في هذه الأيام التي انتشرت فيها رائحة الموت من حولنا وفشت.
فكم مِن مؤمّل أن يبلغ رمضان فاجأه الموت دونما استئذان فلم يصل إلى أمله، فبلوغ رمضان نعمة عظيمة يمُن الله بها على من يشاء من عباده لينالوا من واسع فضله وعظيم عطاياه، وبلوغه هبة كبيرة من الله لعباده حيث يضيف إلى أعمارهم أياماً شريفة في ساعاتها، عظيمة في أجرها، فإنه إذا دخل رمضان تنزلت السكينة والرحمات، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين» (رواه البخاري).
وفي رمضان يعظم الأجر من الله: كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به» (رواه مسلم).
وفي رمضان تغفر الذنوب لمن صام وقام: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» (رواه البخاري)، «من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» (رواه البخاري).
وفي رمضان تربى النفوس وتَحسن الأخلاق: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «والصيام جُنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله، فليقل: إني امرؤ صائم» (رواه البخاري).
وفي رمضان تُضاعف الأعمار ببلوغ ليلة القدر: التي قال الله عنها: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ) (القدر: 6) وتعلو الدرجات بإحيائها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه» (رواه البخاري).
وفي رمضان يفرح الصائمون بصيامهم، ويفرحون بفطرهم وبجائزة العيد من ربهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه» (رواه البخاري).
فهل يدرك كل منا قيمة هذه النعمة العظيمة ببلوغ رمضان؟ فاللهم بلغنا رمضان.