كثيراً حين يتكلم الناس فيما بينهم في أي شأن من الشؤون، سواء أكان شأناً علمياً، أو اجتماعياً، أو أثناء الحديث في الاجتماعات وغيرها، يغلب على كثير مقاطعة الآخرين في الحديث، وربما يسمح لهم بإكمال كلامهم دون أن يقاطعهم أحد، لكن حين يسمعون كلاماً يكون لهم عليه تعقيب أو اعتراض أو ملاحظة، ربما لا يلاحظ كثير من هذا الصنف من الناس أنهم يسارعون في مقاطعة الآخرين، فيقطعون عليهم كلامهم دون أن يقصدوا، بل ربما يقاطعه مع أول جملة يقولها دون أن يكملها، وهذا لا يعني في الغالب التنقيص من الشخص أو الطعن في كلامه، إلا إذا كانت هناك خصومة بادية بين الطرفين، ولكنها سيطرة فكرة الشخص ومحاولة تمريريها على الجميع، ودفع الجميع إلى تبنيها دون أن نستفيد من أفكار الآخرين وحوارهم.
ومثل هذا السلوك يجعل للشيطان بين الناس سبيلاً، وربما أثار الضغائن والخصومات بينهم، إلا من رحم الله ممن تحلوا بالأناة وإحسان الظن، ومن هنا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم علم الأمة مهارة الاستماع إلى الآخرين، وعدم الانسياق وراء شهوة الكلام، أو فرض الآراء، أو الدفاع عنها بشراسة، بل يعرض كل منا رأيه في هدوء وأناة، مستمعاً إلى الآخرين، مستفيداً منهم، مسترشداً بكلامهم، مكملاً عليه مما عنده من أفكار، حتى تتكامل أفكارنا، ونكون جميعاً شركاء في النجاح.
وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم النموذج الأسمى في ذلك، فقد كان صلى الله عليه وسلم يجيد فن الاستماع إلى الآخرين دون رغبة في الرد عليهم، ومن ذلك نجد في السيرة النبوية حواراً راقياً بين النبي صلى الله عليه وسلم، وعتبة بن ربيعة حين استأذن قريشاً أن يكلم النبي صلى الله عليه وسلم بغرض أن يصده عن دعوة الإسلام.
ففي «الدر المنثور في التفسير بالمأثور» (7/ 311) للسيوطي، قال: «وأخرج ابن عساكر عن ابن عمر رضي الله عنهما أن قريشاً اجتمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد، فقال لهم عتبة بن ربيعة: دعوني حتى أقوم إلى محمد أكلمه، فإني عسى أن أكون أرفق به منكم، فقام عتبة حتى جلس إليه فقال: يا ابن أخي، إنك أوسطنا بيتاً وأفضلنا مكاناً، وقد أدخلت في قومك ما لم يدخل رجل على قومه قبلك، فإن كنت تطلب بهذا الحديث مالاً فذلك لك على قومك أن تجمع لك حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد شرفاً فنحن مشرفوك حتى لا يكون أحد من قومك فوقك ولا نقطع الأمور دونك، وإن كان هذا عن لمم يصيبك لا تقدر على النزوع عنه بذلنا لك خزائننا في طلب الطب لذلك منه، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفرغت يا أبا الوليد؟»، قال: نعم، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حم) (السجدة) حتى مر بالسجدة فسجد وعتبة ملق يده خلف ظهره حتى فرغ من قراءته.
وقام عتبة لا يدري ما يراجعه به حتى أتى نادي قومه، فلما رأوه مقبلاً قالوا: لقد رجع إليكم بوجه ما قام به من عندكم، فجلس إليهم فقال: يا معشر قريش، قد كلمته بالذي أمرتموني به حتى إذا فرغت، كلمني بكلام لا والله ما سمعت أذناي بمثله قط، فما دريت ما أقول له!
يا معشر قريش، أطيعوني اليوم واعصوني فيما بعده، اتركوا الرجل واعتزلوه، فوالله ما هو بتارك ما هو عليه وخلوا بينه وبين سائر العرب، فإن يكن يظهر عليهم يكن شرفه شرفكم وعزه عزكم وملكه ملككم، وإن يظهروا عليه تكونوا قد كفيتموه بغيركم، قالوا: أصبأت إليه يا أبا الوليد».
ونلاحظ هنا أدب الحوار وحسن الاستماع من النبي صلى الله عليه وسلم لعتبة بن ربيعة، وكيف كان أحد عوامل التأثير على عتبة وهو مشرك، حتى إنه أدرك ما عليه الرسول صلى الله عليه وسلم من حق النبوة والرسالة.
وعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم مهارة الاستماع إلى الآخرين خاصة في التقاضي، وأن على الخصم أن يستمع لخصمه كاملاً دون مقاطعة حتى يرى ما عنده، ومما يؤثر في ذلك ما أخرجه أحمد (6 / 268) والبزار (1309) بإسناد صحيح عن ابن إسحاق: حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: ابتاع رسول الله صلى الله عليه وسلم من رجل من الأعراب جزوراً -أو جزائر- بوسق من تمر الذخرة (العجوة)، فرجع به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته والتمس له التمر فلم يجده، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: «يا عبد الله، إنا قد ابتعنا منك جزوراً -أو جزائر- بوسق من تمر الذخرة، فالتمسناه فلم نجده»، قال: فقال الأعرابي: واغدراه! قالت: فهمّ الناس وقالوا: قاتلك الله، أيغدر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوه، فإن لصاحب الحق مقالاً».
ثم عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا عبد الله، إنا ابتعنا منك جزائر ونحن نظن أن عندنا ما سمينا لك، فالتمسناه فلم نجده»، فقال الأعرابي: واغدراه! فنهمه الناس وقالوا: قاتلك الله، أيغدر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوه، فإن لصاحب الحق مقالاً».
فردد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك مرتين أو ثلاثاً، فلما رآه لا يفقه عنه قال لرجل من أصحابه: «اذهب إلى خولة بنت حكيم بن أمية فقل لها: رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك: إن كان عندك وسق من تمر الذخرة فأسلفيناه حتى نؤديه إليك إن شاء الله»، فذهب إليه الرجل، ثم رجع فقال: قالت: نعم، هو عندي يا رسول الله، فابعث من يقبضه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجل: «اذهب به فأوفه الذي له»، قال: فذهب به فأوفاه الذي له، قالت: فمر الأعرابي برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في أصحابه، فقال: جزاك الله خيراً، فقد أوفيت وأطيبت.
ولهذا كان الاستماع من المحامد لأنه طريق الانتفاع بالكلام، ولهذا قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (الزمر: 18).
وقد عرف العلماء والأدباء قيمة حسن الاستماع، حتى عد أسماء بن خارجة الغزاري حسن الاستماع مما يغلب به المرء، فقال: «ما غلبني أحد قط غلبة رجلٍ يصغي إلى حديثي» (التاج في أخلاق الملوك للجاحظ، ص 58).
من فقه الاستماع
من فقه الاستماع ألا تقطع حديث المتكلم، بل استمع له حتى نهاية حديثه، ولهذا قيل: تعلّم حسن الاستماع، كما تتعلم حسن المقال، ولا تقطع على أحد حديثاً، وقال رجل: أذني قمع لمن يحدّثني، بل عدّ البعض عدم الاستماع نفاقاً، فقيل: استمع، فسوء الاستماع نفاق.
وعدم الاستماع الجيد يقود إلى إجابة خاطئة وسوء فهم بين الطرفين، فقيل: أساء سمعاً فأساء إجابة.
وقال فيلسوف لتلميذ له: أفهمت؟ قال: نعم، قال: كذبت لأن دليل الفهم السرور ولم أرك سررت. (راجع: «محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء للأصفهاني» (1/ 95-96).
ولهذا كان من حكمة الله أن يخلق للمرء لساناً واحداً وأذنين، حتى يسمع ضعف ما يتكلم، وقد عبر الشاعر عن ذلك المعنى بقوله:
اسْمَعْ مُخَاطَبة الجليس ولا تكن عَجِـلا بنطقـك قبلما تتفهـمُ
لم تُعْطَ مع أُذنيك نُطـقـا واحـداً إلا لتَسمعَ ضِعفَ ما تتكلم
خطوات نحو الاستماع:
– انظر إلى محدثك ولا تصرف بصرك عنه.
– أظهر اهتمامك وانتباهك لكلامه.
– لا تفكر في الإجابة عما يطرحه.
– لا تتأثر بحوار الآخرين الجانبية.
– ابتسم له أثناء الحديث، أو هز رأسك تعبيراً عن الاهتمام به.
– اسأله عما أشكل عليك دون أن تسارع إلى نقده دون تثبت.
– قل خلافك معه على هيئة سؤال.
– ابتعد عن النقد واطرح ما تراه من باب الاقتراح.
– أثنِ على محدثك قبل التعليق على حديثه.
– ناقش الأفكار ولا تحكم على الشخص.