في هذا المقال، يروي أ. عمر الأميري، يرحمه الله، لـ«المجتمع» إحدى وقائع جمال عبدالناصر المندرجة في إطار خططه لضرب جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وذلك من خلال الضغط عليهم من أجل نقض بيعتهم للمرشد العام المستشار حسن الهضيبي، يرحمه الله، فيقول:
في أعقاب الانقلاب على أديب الشيشكلي عام 1954م طلب إليَّ الرئيس هاشم الأتاسي أن أحمل رسالة شفهية إلى الملك سعود ملك المملكة العربية السعودية آنذاك، تتعلق بتوثيق الروابط وتصفية الأجواء بين البلدين، وإعادة التعاون بين سوريا والمملكة العربية السعودية إلى مستوى الود والإخاء، الذي كان مستمراً بينهما من القديم.
وكان الملك سعود يعتزم القيام بزيارة مصر، ورؤي أنه من الأجدى تسليم الرسالة المشار إليها خلال هذه الرحلة.
وسافرت بالفعل إلى مصر، والتقيت بالملك سعود وأبلغته الرسالة، وحضرت الاحتفال الذي أقيم لتكريمه من قبل الحكومة المصرية، ومن قبل رئيس الجمهورية السورية السابق السيد شكري القوتلي، والذي كان قد نقل إقامته إلى الإسكندرية.
وقد حدثني رئيس الجمهورية المصرية آنذاك اللواء محمد نجيب -يرحمه الله- خــلال وجوده في دعوة الإسكندرية، وذلك في ركن اختاره في المنزل حيث دعاني لمجالسته فيه.
لقد حدثني عن مخاوفه من مخططات عبد الناصر الذي كان رئيساً للوزارة آنذاك.. وعما يمكن أن يورط به السياسة العربية انطلاقاً من مواقفه والتزاماته السرية مع الدول الكبرى!
وقد كان بيني وبين عبد الناصر معرفة سابقة ولقاءات متكررة وأحاديث عن التعاون المطلوب بين جماعة الإخوان المسلمين والضباط الأحرار، وكان كثيراً ما يُعرِّض بفضيلة الأستاذ حسن الهضيبي مرشد عام جماعة الإخوان المسلمين، وكان آخر اجتماع بيننا مخصصاً لبحث هذا الموضوع قد تقرر فيه أن نوالي الاجتماعات حتى نصل إلى الغرض المنشود.
وسافرت من مصر دون أن تنتهي هذه الاجتماعات إلى حل حاسم في العلاقات بين الجيش المصري والإخوان، وقد تطورت الأوضاع، وأقدمت الحكومة على حل جماعة الإخوان المسلمين وإغلاق مركزهم العام واعتقال عدد كبير من رجالاتهم البارزين.
وكان من الطبيعي أن أتصدى خلال وجودي في القاهرة لإبلاغ رسالة الرئيس السوري للعاهل السعودي لزيارة جمال عبد الناصر، ولقد حاولت ذلك أكثر من مرة دون جدوى.
ولما انتهت زيارة الملك سعود لمصر (بعد أن أجدت وساطته في الإفراج عن الفوج الأول من الإخوان المعتقلين) خرجت إلى المطار لوداعه، وهناك اجتمعت بجمال عبد الناصر الذي بادرني بعتاب لأنني لم أسأل عنه، ولم أحرص على زيارته، فأكدت له أنني حاولت ذلك مرارا وتركت له أخبارا، لكنه كان شغل شاغل فيما يبدو فلم يتصل بي ولم يسأل عني.
ولكنه فاجأني في المطار فقال بأنه اطلع على الوثائق الخاصة المصادرة من المركز العام للإخوان المسلمين على تقرير خاص كنت قد كتبته (بناء على تكليف الهيئة التأسيسية) وعالجت فيه وضع الجماعة في الحاضر ومشاكلها والحلول المقترحة المستقبلية وقال لي: “وقد توقفت باهتمام عند معالجتك للعلاقة بين الإخوان والضباط الأحرار والمقترحات التي قدمتها لإقامة تعاون مثمر بين الطرفين، وقد كنت جائراً علينا في تقريرك ومع هذا أعتقد أنهم لو أخذوا بمقترحاتك لما حصل بيننا ما حصل ولما تم حل الجماعة، واعتقال رجالها” فقلت له: إن الحق عليه في ذلك، ولما تساءل عن السبب مستنكراً ذكَّرته باللقاءات السابقة بيننا، وكيف أنه قطع الحبل فيها، ولم يتابع البحث والسعي لتسديد الأوضاع، وتلافي الأخطاء من الجانبين، فقال: «قد كان ما كان ولا بد أن نتلاقى الآن لتلافي ما فات فيجب أن نجتمع وندرس الموضوع بجد حتى نصل فيه إلى قرار حاسم»، ورغب عبدالناصر أن أتصل به لتحديد موعد لذلك.
وقد حاولت من جديد لقاءه أكثر من مرة دون جدوى، حتى تلقيت برقية من الرئيس السوري بضرورة العودة، فحددت موعد السفر، ومررت بمكتب عبد الناصر ثم بيته، ولكنه لم يكن موجودا، وتركت له بطاقتي، وقد كتبت عليها كلمة «مودعاً» ومن ثم ذهبت لأودع فضيلة الأستاذ الهضيبي فوجدت عنده السيد صلاح سالم، وانتظرت طويلاً، واستمرت المقابلة بينهما إلى ما بعد الساعة الواحدة والنصف ليلاً، وكنت انتظر في بيت الأخ محمد هارون المجددي -يرحمه الله- الذي كان قريباً من بيت المرشد العام واجتمعت بالمرشد عقب ذهاب صلاح سالم فوجدته متأثراً جداً، ونقل لي ما دار بينهما من حديث، كان قد نقل فيه صلاح سالم رسالة من عبد الناصر فيها الكثير من الإثارة والاستفزاز وقال لي السيد المرشد: كيف يمكن في مثل هذا الجو أن أستجيب لمطالب الجيش، وأضع جماعة الإخوان تحت تصرفهم وإمرتهم، بحيث تبقى الجماعة في موقع التأييد الشعبي دون أن يكون لها موضع في صنع القرار؟! وكيف يمكن أن نوافق أن يشترك بعض أفراد منها يختارهم الجيش في وزارات يعينها الجيش أيضاً، وبكلمة مختصرة أن تلغي جماعة الإخوان شخصيتها واستقلاليتها وتصبح قوة تتبع الحكومة وتدعمها؟!
فحاولت تلطيف الجو مؤملاً أن تستمر المباحثات بين الجانبين وأن يسودها الإخلاص والحكمة وتحري المصلحة العامة، وأن تنتهي إلى ما يمكن من وفاق واتفاق.
وعدت إلى الفندق بعد الساعة الثانية والنصف ليلاً، وبعد ساعة قرع جرس الهاتف وإذا بالمتكلم جمال عبد الناصر الذي قال لي: ماذا تعني في بطاقتك كلمة «مودعاً» فأخبرته أنني تلقيت برقية من سورية بضرورة العودة، وقد حجزت للسفر، فقال: ولكننا لم نجتمع كما اتفقنا في المطار، فأكدت أنني حاولت ذلك دون جدوى، فقال عبد الناصر: سأكلف من يلغي رحلتك، وأبرق أنت لذلك إلى دمشق وسأرسل في الساعة الحادية عشرة رسولاً يوصلك إليَّ.
واجتمعنا في الموعد المحدد لأكثر من ساعتين ونصف واستعرضنا المشكلات القائمة بين الإخوان والجيش، وكان حديثه يلف ويدور حول المرشد العام أ. حسن الهضيبي يزعم -عبد الناصر- أنه العقبة الكؤود في طريق التفاهم والتعاون، ونقل عبدالناصر عن لسانه كلاماً حمله له صلاح سالم يغاير تماماً ما حدثني به فضيلة المرشد، إذ ادعى أن المرشد اشترط أن يتم التشاور بين الطرفين في كل صغيرة وكبيرة، وأن يكون القرار النهائي للإخوان الذين يجب أن يفسح لهم المجال لتولي عدد كبير من الوزارات الرئيسة كوزارة التعليم والداخلية والإعلام وسواها، فبينت له أن الواقع مخالف لذلك، وأن الحقيقة غير ذلك تماماً، فقال: لقد تم هذا في ليل البارحة المتأخر، وكان -وهو يحدثني- يظن أنني لا أدري به، فلما أكدت له التقائي بفضيلة المرشد بعد انصراف صلاح سالم تحير وارتبك وسكت ووجدتها مناسبة لأطلب إليه أن يكون لقاؤه مع فضيلة المرشد شخصياً بالذات دون أية وساطة، ولكنه عاد وأبدى نفرته من جفاء طبع المرشد، كما ادعى متهماً إياه بالتعقيد والقسوة في المواجهة، حدة الطبع وقد حاججته حجاجاً منطقياً طويلاً لم يغير من موقفه شيئاً، وانتهى به الأمر إلى مصارحتي بأنني إذا كنت أريد أن يسود التفاهم بين الإخوان والجيش فيجب عليَّ أن أقنع الإخوان بنقض بيعتهم للأستاذ الهضيبي وخلعه، واختيار مرشد عام آخر بالتفاهم مع الجيش.
وهنا أعلنت له بصراحة عدم اتفاقي معه بالرأي وعدم إمكاني القيام بما اقترحه عليَّ، وأنني سوف أترك هذا الأمر مكتوماً في نفسي، ولا أعلنه لأحد من الإخوان حتى لا يتفاقم الوضع.
وقد كنت وفياً بهذا الوعد، ولكنه التاريخ وأمانته التي جعلتني أستجيب لطلب مخلص وأسجل هذه الواقعة هنا إظهاراً للحقيقة والتماساً للعبرة وإبراء للذمة(1).
_______________________________
(1) تم نشر هذا المقال في «المجتمع» بالعدد (859)، 4 شعبان 1408هـ/ 22 مارس 1988م، ص20-21.