عرفته منذ عقود. كان المزاح على الطريقة الأزهرية يشدّنا، رأيت فيه المروءة والشهامة والكرم، وكان وفاؤه للإسلام وتصوراته واضحًا في كل كلمة كتبها.
طوحت بنا الأيام في الغربة، فجمعنا الألم والأمل، وسافرنا يمينًا وشمالًا فكان بيته مثابة للمسافر، والباحث عن الدفء الروحي والراحة النفسية.. ولا أذكر أنه آذى شخصًا بكلمة، أو ظلم أحدًا من الناس، كان همه الفكري فوق كل الأمور الحياتية الآنية التي تشغل الناس في حياتهم اليومية والمعيشية.
وقبل كل ذلك كان من القابضين على الجمر.. لم تخدعه الشهرة، ولم تبهره الدعاية، فظل في بيته وكليته يقرأ ويكتب، ويسجل في كتبه ومقالاته ما يؤمن به ويقتنع بصوابه.
فقدان الأحبة
قبل أسابيع من رحيله كنا نتهاتف، ونتذاكر الأصدقاء والزملاء، وأخبرني أنه بخير، وأن بعض أبنائه وأحفاده يزورونه ويتابعون مطالبه اليومية والإنسانية، بعد أن فَقَد قبل نحو عامين قرينته الفاضلة بعد إصابتها بالكورونا، فلم يبد جزعًا أو هلعًا، كان صابرًا محتسبًا، مؤمنًا بالصبر الجميل، وجاء نعيه قبيل ظهيرة السبت الأول من رجب 1445هـ= الثالث عشر من يناير 2024م، بانتقاله إلى رحمة مولاه، على غير توقع، فلم يكن مريضا عند الهتاف الأخير، ولم يكن يشكو من ألم. كان طبيعيا ويتحدث في أمور وقضايا، ويناقش معي مناقشة علمية عادية، ولم يكن في صوته ما ينبئ عن معاناة. الموت حق، وأمر متوقع في كل لحظة، وهناك من يتوقع رحيله وفقا لأمارات المرض والعمر والمتاعب البشرية، ولكنه كان سليما معافى تجاوز محنة “الجلطة” قبل سنوات، وكان سعيدًا بمواصلة ذهابه إلى الجامعة ليحاضر طلاب الدراسات العليا، ويلتقي بزملائه وأصدقائه. ولكن رحيل قرينته ترك أثرا مباشرا عليه، حيث تركته وحيدا لا يُشبع أُنْسه الأولاد ولا الأحفاد وإن حاولوا بحضورهم المبهج، ووجودهم المُرضي.
دفعة الإمام
كانت عقيلته- من عائلة الحساسنة- أنسه الدائم، وحصنه المانع، وقد رأيت تأثير فراقها واضحا في كلماته، وإن لم يبد جزعا، وقد نعاها شيخ الأزهر الحالي الدكتور أحمد الطيب حين انتقلت إلى الرفيق الأعلى، فقد كان الشيخ من دفعة عبده زايد في المراحل الدراسية الأزهرية المختلفة (وكنت من أبناء هذه الدفعة على بعد المكان بين أقصى الجنوب وأقصى الشمال)، وكان الشيخ قريبا من الأسرة، فضلا عن الانتماء إلى قرية واحدة هي القرنة بالأقصر (جنوب مصر)، حيث ولد فيها الرجلان (الشيخ عام1946 وعبده عام 1948م).
نعى الشيخ صديقه وزميله ودفعته وبلدياته وقال في بيان صدر عقب إعلان الوفاة:
“بمزيدٍ من الرضا بقضاء الله وقدره، ينعى فضيلة الإمام الأكبر أ.د أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، أخاه وصديقه وزميله في رحلة الدراسة وطلب العلم، الأستاذ الدكتور عبده زايد، أستاذ البلاغة بكليَّة اللغة العربية بجامعة الأزهر والجامعات العربية، الذي وافته المنية صباح اليوم السبت(13/1/2024م).
وذكر شيخ الأزهر أنَّه قد زامل الصديق الراحل منذ الطفولة وخروجهم من القرية نفسها للدِّراسة في المراحل التعليمية المختلفة، انتهاءً بالدراسة في جامعة الأزهر، فكان مثالًا في الأدب والأخلاق والعلم، مخلصًا لأزهره طوال فترة عمله منذ أن كان معيدًا وحتى تفرغه للبحث، وأنَّ الصديق الراحل لم يدَّخر جُهدًا في خدمة طلاب العلم والباحثين، وكان خير ممثِّل للأزهر في المحافل العلميَّة والأكاديميَّة، وستظل كتبه ومؤلفاته منهلًا خصبًا للطلاب والباحثين في علوم اللغة العربية وآدابها.
ويتقدَّم فضيلة الإمام الأكبر أ.د أحمد الطيب، شيخ الأزهر بخالص العزاء وصادق المواساة إلى أسرة الدكتور عبده زايد، وإلى أسرة كلية اللغة العربيَّة بجامعة الأزهر، وإلى أصدقائه وطلابه، داعيًا المولى عزَّ وجلَّ أن يتغمَّد الصديق الراحل بواسع رحمته ومغفرته، وأن يجعل ما قدمه لأزهره وطلابه في ميزان حسناته شفيعا له.. “إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون”.
الاسم الأصلي
كما نعى عدد كبير من أساتذة وطلاب جامعة الأزهر الشريف باسمه الأصلي الأستاذ الدكتور أحمد محمد علي، الشهير باسم عبده زايد.
ومن المفارقات التي رواها لي صديقي الشاعر المغربي الكبير حسن الأمراني أن الدكتور عبده زايد- رحمه الله- كان في ندوة ويجلس على المنصة وعليها اسم شهرته (عبده زايد)، فإذا بأحد الحاضرين وكان يعلق على بحث قدمه الدكتور أحمد محمد على، وانتقد البحث انتقادا حادا، ولم يكن يعلم أن عبده زايد هو أحمد محمد على، فإذا بالجمهور الحاضر يفاجأ أن عبده زايد يضحك ولا يبدي غضبا، فقد كان المعلق لا يعرف أن الرجل يحمل اسمين. ويتمتع بقدرة ملحوظة على التسامح واغتنام الفرصة للتصويب والتصحيح.
وأسماء الشهرة مسألة شائعة في البيئات الريفية، فهم يحرصون على أن يكون الاسم النبوي الشريف (محمد وأحمد ومصطفى وطه، وعبد الله ونحوها) أسماء لأبنائهم، لأن بعض العائلات تسمي الأخوين محمدا، ويلجأون إلى التمييز عن طريق أسماء الشهرة (محمد الكبير، محمد الصغير، محمد أبوعلي، محمد أبو إبراهيم..)، وكان حظ عبده زايد، أن يشتهر باسم بعض أجداده، ليعرف بين العائلة والقرية.
الأساتذة الراسخون
لم تول الصحافة المصرية خبر رحيل عبده زايد، كما تهتم ببعض الفئات مثل التي تنتمي إلى الكرة أو الفن، وتظل تلح على أخبار وفياتهم على مدى أسابيع وشهور وسنوات، حتى لو كانوا في منزلة متواضعة، ولكن بعض المواقع نشرت على استحياء خبرا عن الراحل في الصفحة الدينية، ووصفته أنه من الأساتذة الراسخين.. وأشارت إلى نعي الكليات والأساتذة والطلاب، للمربي الفاضل والعالم الجليل ودعائهم له بالرحمة والغفران. ووصل ما انقطع من عمله بعلمه.
مثل معظم الأطفال في زمنه تعلم عبده زايد في كتاب القرية، وحفظ القرآن الكريم وازداد تشبعا بأسلوبه المعجز في دراسته بالأزهر الشريف، حيث درس الحديث الشريف والتفسير والفقه والتوحيد والنحو والصرف والسيرة النبوية الشريفة والبلاغة والأدب العربي شعرا ونثرا، وكلها علوم مرتبطة ارتباطا وثيقا بالقرآن الكريم.
تخرج الراحل في كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر؛ حيث حصل على الليسانس، ثم تابع دراسته العليا فحصل على درجة الدكتوراه من الكلية ذاتها وصار عضوا بهيئة تدريسها إلى يوم رحيله.
مجالان مهمان
ويمكن متابعة نشاطه الفكري بعد التدريس بالجامعة في نقطتين أساسيتين، هما:
التأليف، المجال الأدبي.
في النقطة الأولى لم يقدم كثيرا من المؤلفات، ولكن الفكرة التي انشغل بها كانت مهمة للغاية، وهي فكرة الإعجاز القرآني من خلال نظرية النظم التي تحدث عنها الإمام عبد القاهر الجرجاني، في كتابيه دلائل الإعجاز، وأساس البلاغة، وطبقها على بعض النصوص، ومنها ما ورد في كتابه (من أسرار البيان النبوي، دار الصحوة، القاهرة، 1406هـ=1985م)، وكتابه (من أسرار النظم في القصص النبوي، دار الصابوني، دار الهداية للنشر والتوزيع، القاهرة، د. ت)، وهو تطبيق لنظرية النظم على بعض القصص التي وردت في الحديث الشريف، ويظهر من خلالها أهمية المنهج اللغوي في فهم النصوص وتفسيرها، وهو منهج يدافع عنه عبده زايد بقوة، حيث يرى أن هناك من يسعى لإخضاع اللغة العربية لمناهج غريبة بعيدة عن خصائصها، ويتجاهل منهج التحليل اللغوي الذي جسده عبد القاهر الجرجاني في نظرية النظم.
ويرى عبده زايد أن كثرة المناهج التي تتعامل مع النصوص الأدبية، وبُعد كثير منها عن مفتاح النص، وهو لغته، فكان لا بد من استعادة هذا المفتاح مكانة ومنزلة، لتنفتح مغاليق النصوص وتكشف أسراها الكامنة في أعماقها.
إن الدوران حول النص لا يغني عن الدخول إليه من بابه ومهما بلغت براعة من يدور حول النص ودقة ملاحظته، فإنه سيظل بمنأى عن جوهر النص وحقيقته.
اتهام غير حقيقي
إن البلاغة العربية متهمة بالقصور في كتابات المحدثين، الذين لم يتعمقوا في الدرس البلاغي العربي ولم يوغلوا فيه، ولا يعرفون من علوم العربية إلا شذرات وقشورا، وكثير منهم يقرأ عن هذه العلوم، ويحكم عليها اتباعا وتقليدا، أكثر ممن يقرأ بعقل ووعي.
إن التراث اللغوي العربي يموج بالتيارات والاتجاهات، وبدلا من قراءة هذه الكتب (الصفراء!!) يتم الحكم عليها بالقصور والتخلف. كم واحدا من الذين يوجهون هذا الاتهام قرأ سيبويه وعبد القاهر وابن جني وابن الأثير؟ كم واحدا قرأ الرماني والخطابي والباقلاني؟ كم واحدا قرأ الآمدي وعبد العزيز الجرجاني؟ كم واحدا قرأ كتابا من أصول الفقه ابتداء من الرسالة للإمام الشافعي، مرورا بالمعتمد لأبي الحسين البصري، والبرهان للجويني، والمستصفى والمنخول للغزالي، والأحكام في أصول الأحكام للآمدي والمحصول للرازي؟ ولا حاجة هنا للسؤال عن علاقة هذه الكتب الأخيرة بعلوم اللغة والبلاغة. كم واحدا قرأ، وكم واحدا من الذين قرأوا فَهِم وعَرَف؟ (من أسرار النظم في القصص النبوي، ص8
أدوات كشف
إن اللغة ليست نظريات تحفظ ولا قوانين تستظهر، ولكنها أدوات نستخدمها في تحليل النصوص وفهمها ونقدها، والكشف عن خصائصها، وإبراز مواطن الجمال والإبداع فيها، وتمييز جيدها من رديئها.
اللغة ضرورة للوقوف على صحيح العقيدة، وصحيح الحكم الشرعي أيضا، ومن لم يستطع أن يتملك مفتاح النص- وهو اللغة- فليس بقادر على تصحيح عقيدة أو استنباط حكم شرعي..
من أجل هذا كله يسعى عبده زايد إلى إحياء مناهج اللغة باقتحام عالم النصوص، وهو ما فعله في كتابه عن أسرار النظم في الحديث النبوي (السابق، 9).
لقد تناول في كتابه قصتين تحدث عنهما الرسول صلى الله عليه وسلم، الأولى قصة الثلاثة الذين ابتلاهم الله من بني إسرائيل: الأبرص والأقرع والأعمى، فقام برواية القصة في البخاري ومسلم، ثم تناولها بالتحليل والترتيب.. (السابق، 15- 18).
ثم توقف عند قصة التوبة للرجل الذي قتل تسعا وتسعين نفسا، وسأل عن أعلم أهل الأرض، وقدم الروايتين اللتين رواهما مسلم في صحيحه، ثم رواية البخاري، وتناولها بالتحليل والتعليق. (58- 63). ويخلص إلى نتائج اعتمادا على المنهج اللغوي.
الأدب الإسلامي
المجال الثاني لنشاط عبده زايد هو الأدب أو الأدب الإسلامي تحديدا، فقد كان عضوا فاعلا في إدارة رابطة الأدب الإسلامي، وخاصة في فترة وجوده معارا بالرياض إلى جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، يحضر الندوات ويناقش الطروحات والأسئلة، المتعلقة بالأدب الإسلامي سواء في الرابطة أو مؤتمراتها أو الأندية الأدبية الأخرى، كما تولى مسئولية تحرير مجلة الأدب الإسلامي واحدا من هيئة تحريرها، ومشاركا بالكتابة فيها،
وكانت له رؤى وتحليلات مهمة في توضيح طبيعة الأدب الإسلامي، وعلاقته بالآداب الأخرى، وأدلى برؤاه وتصوراته لعديد من الصحف والمواقع الإلكترونية.
واقع أدبي
ومن ذلك مفهومه للأدب الإسلامي، الذي ورد في حديثه إلى مجلة البيان، شعبان 1420هـ أجراه معه علي الغريب، قال فيه:”.. الأدب الإسلامي كان موجودا من حيث هو واقع أدبي، منذ أن نزلت آية الشعراء [وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ۗ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ (الشعراء: 224- 227) الآية قبل الاستثناء تتحدث عن الشعراء من حيث هم، والآية بعد الاستثناء تتحدث عن الفئة المستثناة، وهي التي لا تدخل في سياق النوع الأول، هي مشتركة مع الفئة الأولى في صفة الشاعرية لكن غاية شعر الفئة الأولى غير غاية الفئة الثانية، والتصور الذي تنطلق منه الفئة الأولى غير التصور الذي تنطلق منه الفئة الثانية. فما جاء بعد الاستثناء يمثل مرحلة النجاة، والشعراء من الصحابة خافوا من الآية حينما نزلت، وذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون له: لقد أنزل الله هذه الآية وهو يعلم أنا شعراء، فقال: اقرأوا ما بعدها [إلا الذين آمنوا] قال أنتم [وعملوا الصالحات] قال أنتم [وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا] قال أنتم. فهذه الفئة المستثناة لم تتحدث عن الشعر والشاعرية وإنما تحدثت عن التصور الذي ينطلق منه الشاعر وهو قضية الإيمان؛ فهم ينطلقون من منطلق غير الذي كان ينطلق منه الذين هم قبل الاستثناء الذين هم في كل واد يهيمون ويقولون ما لا يفعلون. الكلام هنا لا يتحدث عن الشعر، وإنما يتحدث عن التصور، وهؤلاء ما سموا شعراء إسلاميين، ولا سمي شعرهم شعرًا إسلاميًا؛ لأنه لم تكن هناك ضرورة لوضع الأسماء في ذلك الوقت واستمر الحال على ذلك لا توضع له أسماء، لماذا؟ لأن قضية الأمة كانت كلها قضية الإسلام…”.
رحم الله عبده زايد، وجعل الجنة مثواه، في رفقة النبيين والشهداء والصالحين.