أنا مدفع الإفطار الذي أدوِّي بصوتي عالياً حين أنطلق معلناً للناس ساعة الإفطار مع غروب كل يوم من أيام رمضان، هكذا وجدتُ نفسي في هذا المكان الذي لا حيلة لي فيه ولا اختيار، ومع ذلك فأنا سعيد بهذا العمل الذي أُلصِقَ بي؛ ذلك لأنه يذكّرني بشهر الصيام والقرآن، كنت أشعر بالفخار وأنا أرتفع عالياً يتعانق صوتي مع صوت الأذان معلناً للمسلمين وقت إفطارهم، فيفرح الجميع بإتمام صوم يومهم، ويفرحون كذلك بفطرهم، لكني الآن حزين وأشعر بالعار، وأحس أنني مهان، وإخوتي من المدافع كذلك تشعر بالعجز والهوان!
فكم تمنينا معاً أن ننطلق بقوة في الآفاق فنعبر الفيافي والقارات لنحمي المستضعفين في كل مكان ونرد عنهم أي عدوان! كم تمنينا أن نطير بعيداً ونسبح فوق البحار لمنع مدافع القتل والدمار، التي تُوجَّه رؤوسها إلى الأبرياء من النساء والرجال والشيوخ والولدان، بل وإلى البيوت والمشافي، والمساجد والمآذن، فتنطلق منها النيران دونما تفكير أو استئذان!
مدفع الإفطار في رمضان
كان المدفع وما زال في بعض بلدان المسلمين يُستخدم في رمضان معلناً حلول وقت الإفطار للصائمين، فيدوي صوته في الأرجاء عالياً كالرعد وكأنه يسبح بحمد ربه شاكراً أنْ وهبه هذه القوة الصوتية الكبيرة، التي صارت كل عام عَلماً على رمضان.
يُحرَم الأطفال الجوعى بغزة اليوم من خبز الإفطار فلا يجدون لقمة منه تسد جوعهم
وما إن يسمعه الأطفال إلا ويصيحون فرحاً: المدفع ضرب.. المدفع ضرب! فيسارع الصائمون إلى الإفطار عملاً بالسُّنة النبوية في ذلك، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «عجِّلُوا الإفطارَ، وأخِّرُوا السُّحورَ» (صحيح الجامع)، فيتناول أحدهم التمرة أو جرعة ماء اقتداء به، فقد جاء عن أنس بن مالك قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُفطِرُ علَى رُطَباتٍ قبل أن يصلي، فإن لم تكن رُطبات فعلى تمرات، فإن لم تكن حَسا حَسَواتٍ من ماء» (رواه أبو داود).
ثم يسارع الصائم بعدها إلى بيت الله ليؤدي فريضة المغرب التي لن يلهيه عنها طعام أو شراب، وقد يصطحب معه ولده أو حفيده الصغير؛ وهذا مما يزيد بهجة الإفطار، فإذا رجع إلى بيته بعد صلاة المغرب وجد أنسه وسروره مع عائلته، حيث مائدة الطعام الحلال قد مُدّت وعليها ما لذ منه وطاب، إنه حين ينظر إليها يتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أكَلَ أحَدٌ طَعاماً قَطُّ، خَيْراً مِن أنْ يَأْكُلَ مِن عَمَلِ يَدِهِ» (رواه البخاري)؛ فيشكر الله الذي أعانه على الكسب الطيب، وحفظه من الخوض في المال الحرام، كما يشكره على نعمة الصحة والعافية التي معها يحلو الطعام.
وإن الطعام إذا طاب ولم يدخله الحرام طابت النفوس وزكت، وصلحت الجوارح وسلمت، وكانت العبادة والدعاء أقرب للقبول، وظهر أثر ذلك في صلاح الذرية، وذلك من البركة في الكسب الحلال، وقد قال النبي صلى الله عيه وسلم: «إنَّ الدنيا حُلْوُةٌ خَضِرَةٌ، فَمَنْ أصابَ مِنْها شَيئًا من حِلِّهِ فَذَاكَ الذي يُبارَكُ فيه» (صحيح الجامع).
الاجتماع على الطعام وقت الإفطار
ها هي مائدة الطعام قد مُدت استعداداً لتناول الطعام وقد توالت أطباقه تفوح منها الرائحة الزكية التي تُشهِّي النفوس وتدعوها للأكل منه.
يركض الأولاد ويلتفون حول أبيهم فرحين، كلٌّ يمسك بيده أو ثوبه متجهين حيث مائدة الطعام، والسعيد مَن يحظى بالقرب من أبيه، فيتسابقون ويتنافسون وكلٌّ منهم يرغب في الجلوس بجانبه، وعيونهم تتراقص من الفرحة بهذا اللقاء الأسَري اليومي في رمضان الذي أعاد إليهم أباهم الذي أبعده العمل والسعي والكد ليسد حاجتهم ويحفظهم من ذل السؤال، إن هذا الاجتماع الأسري مما يميز هذا الشهر المبارك، وبه تحُل البركة في الطعام.
بينما ينطلق مدفع إفطارنا لتحيا أبداننا بتناول الطعام تنطلق بغزة مدافع الغدر والإجرام
رغيف الخبر
وفي وسط المائدة جلس رغيف الخبز متربعاً وقد احتل أحسن مكان فيها، وكأنه يقول للجميع: انظروا إليَّ، فأنا لست مثل بقية الطعام! وقد صدق خبزنا، فما صار إلى أيدينا إلا بعد أن مر بمراحل عدة حتى صار خبزاً شهياً للآكلين.
غير أن رغيف الخبز اليوم يُهان وقد بطشت به يد الإنسان! يُهان حين يُحرَم منه الأطفال الجوعى في غزة وغيرها فلا يجدون لقمة منه تسد جوعهم! يُهان حين تُسَدّ المنافذ في وجهه فلا يجد طريقاً ليصل إلى أيديهم ومن ثَم إلى بطونهم!
إنه اليوم يستغيث استغاثة أهل غزة حين يُقذف معهم بالمدافع الثقيلة والقنابل الحارقة والصواريخ الموجهة؛ فيستشهد معهم وقد اختلط بدمائهم وتراب أرضهم الذي نبت فيه ويُدفن شهيداً فيها تحت الأنقاض!
إنه يُهان حين يأكله الشبعان أو يلقي به وببقاياه في سلة المهملات بينما لا يصل إلى المحرومين في البلدان الفقيرة التي أنهكتها الحروب فلا تجد بذرته للنمو سبيلاً وقد أفسدت تربته قسوة واعتداء وظلم الإنسان!
بين مدفع ومدفع
وبينما ينطلق مدفع إفطارنا لتحيا أبداننا وتنشط بتناول الطعام، تنطلق في غزة دون توقف مدافع الغدر والإجرام من المحتلين لتقتل منهم الأبدان وتخمد الأنفاس، فتعلو صرخات الأطفال واستغاثات النساء وعدوهم يبيدهم إبادة الجماعية في غارات وحشية ليس لها مثيل، دون التفريق بين صغير وكبير أو رجل وامرأة أو شيخ وعجوز، فالكل سواسية في هذه الإبادة الحاقدة التي لا يقرها شرع أو عُرف، ولا يرضى بها دين أو إنسانية سوية، فأين حقوق الإنسان والمرأة والطفل والحيوان؟!
بينما تجتمع عائلاتنا على السفرة وقت الإفطار تجتمع كثير من عائلات غزة في قبورهم شهداء
وبينما تجتمع عائلاتنا على السفرة بعد مدفع الإفطار، تجتمع كثير من العائلات في غزة في قبورهم شهداء، أو تحت الأنقاض والركام أمواتاً وأحياء، ومَن ينج منهم لا يجدون للشبع والرِّيّ سبيلاً، ولا للأمن والدفء مكاناً! لا يجدون أسرة ليجتمعوا معها على مائدة الإفطار، ولا مسجداً ليصلوا فيه، ولا مستشفى ليعالَجوا فيه، ولا مدرسة ليلجؤوا إليها، ولا مكاناً آمناً يرتحلوا إليه! بل إنهم صائمون رغماً عنهم وإن كانوا من أهل الأعذار المباح لهم الفطر! وإنهم يمارسون الوصال في الصيام رغماً عنهم وإن كان النهي قد ورد عنه، فلا يجدون جرعة ماء ليتسحروا عليها في ظلمة الليل البهيم!
هذه حالتهم ومأساتهم وكأنها خيال، وبينما يرفع الصائم منا يديه بدعاء الصائم المستجاب، يرفعون هم أكفهم إلى ربهم بدعاء المظلوم المقهور الواثق بفرجه، فيقول الله تعالى لكل مظلوم: «وعزَّتي وجَلالِي لأنْصُرَنَّكِ ولَوْ بعدَ حِينٍ» (رواه الطبراني)، وصدق الله حين قال: (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) (الطلاق: 7).