ذكر الموت
الغالب في ذكر الموت أنه مُنغّص مُكدِّر، لذلك يَفِرّ المرء بطبعه من تذكّره كما يَفرِّ من غيره من المُنغّصات، وهو في حق الكفار حقيق بهذا التنغيص، لأنهم لا يَرجُون بعد الموت خيرًا، بل لا يعتقدون بعده شيئًا، أما في حق المؤمن فيجب أن يتجلّى أثر إيمانه في التعامل مع وقوع الموت، يقول القرطبي في «التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة»: «ذكر الموت يُورِث استشعار الانزعاج عن هذه الدار الفانية، والتوجّه في كل لحظة إلى الدار الآخرة الباقية، ثم إنّ الإنسان لا ينفكّ عن حالتَيْ ضيق وسعة، ونعمة ومحنة، فإن كـان في حــال ضيق ومحنة، فذكر الموت يسهّل عليه بعض ما هو فيه، فإنه لا يدوم، والموت أصعب منه، أو في حال نعمة وسَعَة، فذكر الموت يمنعه من الاغترار بها والسكون إليها، لانقطاعه عنها آخر المطاف».
وهذا هو مقصود الحديث: «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَادِمِ اللَّذَّاتِ، فَمَا ذَكَرَهُ عَبْدٌ قَطُّ وَهُوَ فِي ضِيقٍ إِلا وَسَّعَهُ عَلَيْهِ، وَلا ذَكَرُهُ وَهُوَ فِي سَعَةٍ إِلا ضَيِّقَهُ عَلَيْهِ» (رواه ابن حبّان)، والاستعداد لملاقاة الله تعالى يبدأ حقيقة من أوقات الرّخاء، لكن لأننا نميل للغفلة وقت الرّخاء تكون أوقات الشدّة تذكرة قهريّة -إن صحّ التعبير- لمن أفـاق وفَـقِـه فَـتَدارك.
استكمال ما بقي من حياة بعد وفاة حبيب
مهما بلغ امرؤ أن يذكِّر نَفْسَه بحقيقة الموت، فإنه حين يَخْبُر تلك الحقيقة، لا يكون الخبر كالمعاينة، ذلك أنّ تَفكُّر النفس في الموت من باب التذكرة بحقيقة غيبيّة عنها لحَثِّها على اغتنام المتاح من عمرهـــا وصحتهــا ووقتهـــا، غيرُ تعامل النفس مع تَبِعات موتٍ حاضر فصار حقيقة مشهودة أمامها، فكلّ منهما امتحان من نوع مغاير، وتزداد وطأة المصيبة إذا كان الميّتُ صَفِيًّا، والصَّفِيُّ كما عَرَّفه ابن الجَوزيّ في «كَشْفِ المُشْكِل»: «المُقَرَّب المُصطفى كالوَلَد والأخِ، وكلُّ مَحبوبٍ مُؤْثَر».
فيما يلي مُشاركَةٌ من تجربةٍ شخصية لمَعَالم في التعامل مع مصيبة الموت في عزيز خاصة:
– الصبر لا ينتهي عند الصدمة الأولى:
من فضل الله تعالى أن يثبّت العبد عند تلقّيه نبأ الوفاة، ويُلهِمه الاسترجاع والحمد والاحتساب، ويُجنّبه النواح والصياح والندب وسائر المحظورات في ذلك المقام، فيظنّ العبد بذلك أنّه قد تجاوز الصدمة الأولى، وأنّ صبره تمَّ بحمد الله تعالى، ويستكين لذلك.
لكنّ الصدمة الأولى بحدّ ذاتها قد تكبح جماح المشاعر مؤقتًا، لأنها تُذهِل صاحبها عن تَشرُّب كامل وَقْعِ المصيبة واستيعاب حقيقتها وآثارها، حتى دفن الميت على الأقل، وربما ليوم أو بضعة أيام بعدها، ثمّ كلما أفاقت الحواس واستوعَبت وَقْع المصيبة وتَبِعَات الموت الكبرى: المفارقة والغياب –وإن كان المسلم يعلم أنهما مؤقّتان وأنّه لاحِقٌ لا ريب بمن سبق- قد تبدأ مشاعر حبيسة في الانفجار عشوائيًا، بما قد يوقِع صاحبها في محذور أو مخالفة ممّا تَجَنَّبه أوّلَ الأمر؛ لذلك ينبغي أن يتفكّر المُصابُ في نفسه مع نفسه في منشأ مشاعره وتوصيفها، حتى لا يكون فيها أثر غضب أو سخط على تقدير الله تعالى من وجه خفيّ، كأن يشعر أنّ المُتوَفَّى توفّي مُبكّرًا أو أنّه كان يستحق فترة أطول معه أو تمهيدًا لقرب وقوع الفراق بينهما.. إلخ.
– تجديد الاحتساب والتعزي بكرامة جوار الله تعالى:
وخير ما يعين على مدافعة آثار الصدمة تجديد الاسترجاع والاحتساب، والتعزّي بما أعدّ الله تعالى من جزاء للمسلم حين يَقبِضه ويُنزِله في جِوَارِه، ولأهل الميت حين يصبرون على مصيبتهم فيه، من ذلك ما جاء في الحديث القُدُسِيّ: «ما لِعَبْدِي المُؤْمِنِ عِندِي جَزاءٌ إذا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِن أهْلِ الدُّنْيا ثُمَّ احْتَسَبَه إلَّا الجَنَّةُ» (رواه البخاري): احْتَسَبَه أي صبر راضيًا بقضاء الله راجيًا فضله (ابن حجر، فتح الباري).
وإذا كان الميّت في غير التصور المسلم ينتقل لوَحْشَة ووَحْدَة في باطن الأرض، وينقطع عن كلّ خير من مُتَع الدنيا ومتاعها، لذلك يشعرون له بالرثاء ويتحسّرون على سوء ما انتقل له، فضلًا عن أنه لا يبقى له ممّا خلَّف وراءه شيء يعود نفعه عليه هو في قبره، بما في ذلك ذِكرُ مآثره إذا ذُكِرَت، أمّا عندنا، فالميّت على الإسلام ينتقل لجِوَار الله تعالى، ويُبدِلُه الله تعالى دارًا خيرًا من داره وأهلًا خيرًا من أهله، ويصحبه في قبره عمله الصالح، ويَصِلُه ثواب ما يهديه إليه الأحياء من القُرَب، ويتلاقى مع أرواح المؤمنين ويتعرّف على من سَبَقه من أهله ومن يلحقه، ويذكره الله تعالى في الملأ الأعلى.. وغير ذلك مما ورد في الكتاب والسُّنّة من أحوال الموتى؛ وخلاصتها جميعًا أن الميّت المسلم ينتقل لمنزل أعلى وخيرٍ مما خلَّف وراءه، ويكون في سَعَة وفضل وأُنسٍ من الله تعالى، ولا تنقطع الصلة بينه وبين أهله ومن شاء ذِكرَه ووَصْلَه.
– الاشتغال بالعمل:
لعلّه لا يخلو أهل ميت ومعارفه من استشعار مرارة ندامة وحسرة تفريط في حق الميت، وحتى هذا له فرج بفضل الله تعالى وحمده، فالله تعالى لم يجعل الموت قطيعة للصِّلات وفصمًا للأواصر بين الخلق، بل امتدادًا من نوع آخر يقوم على الغيب لا الشهادة؛ لذلك يمكن لكل نادم التدارك ولكل حريص البذل بالاشتغال بالباقيات الصالحات التي تنفع الميت ويصله ثوابها، فيشكر العامل بذلك نعمة ربّه عليه وعلى الميّت، ويبني جسور وصال جديدة معه، عِوَضًا عن إهدار طاقة النفس في طول الوقوف على أطلال الحسرة والتأسف، بما قد يوقِع صاحبه في محذورات ومحظورات قَلبيّة وقَوليّة، وإنَّ التفريط في برِّ الدنيا يهون في جنب برِّ الآخرة، خاصة وأنّ الميت يكون أحوج له حين ينقطع عمله.
ومعلوم من سيرته صلى الله عليه وسلم أنه ما نسي ذكر السيدة خديجة ولا تَعَهُّد أقاربها وأصحابها حتى بعد تعدّد زوجاته، من ذلك ما روى مسلم في صحيحه عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا غِرْتُ عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَّا عَلَى خَدِيجَةَ، وَإِنِّي لَمْ أُدْرِكْهَا! وَكَانَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَبَحَ الشَّاة يَقُولُ: «أَرْسِلُوا بِهَا إِلَى أَصْدِقَاءِ خَدِيجَةَ»، فَأَغْضَبْتُهُ يَوْمًا فَقُلْتُ: خَدِيجَـــةَ (أي تُكثِر ذِكْرَها حتى بعدما تُوُفيّت)، فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا».
ختامًا، مِن المؤمنين مَن ينتظر الموت انتظاره لـ«الخلاص» من شدائد هذه الدار وأكدارها، والموت للمؤمن حقًا راحة ونجاة وبشرى بلقاء وجه الله الكريم، لكن لمن عاش مؤمنًا أوّلًا، والجهاد للحياة في سبيل الله تعالى أصعب وأشقّ من أمنية الموت في سبيل الله تعالى؛ بل إن تلك الموتة الشريفة لا تكون إلا لمن جاهد ذلك الجهاد الشريف، فتأمّل! وكما أنّ للحياة عند المؤمن ثقل أمانة وتكاليف مسؤوليات، لها كذلك جمال معرفة الله تعالى وفرصة الاستزادة من الصالحات وأعمال الخير، فلكلٍّ من الحياة والموت معًا جمال وجلال عند المؤمن بالله تعالى، لذلك لا بد من موازنة الرؤية واكتمال التصور حتى لا تنكفئ كِفّة المؤمن رغم إيمانه، بدل أن يكون إيمانه سبب اعتدالها!