يترقب المسلمون في هذه الأيام بلوغ شهر رمضان، رغبة في الغفران، والعتق من النيران، ونيل أعلى درجات الجنان، ورغم هذا الاهتمام يغفل الكثير عن تجهيز قلبه لاستقبال هذا الشهر الكريم، فمع أن رمضان مضمار سباق إيماني؛ هل يعقل أن يفوز متسابق لم يتأهل قبل السباق؟!
وامتثالاً لأمر الله تعالى: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) (الذاريات: 55)، تعين أن نتذاكر كيفية الاستعداد لتحقيق أقصى استفادة من رياح التغيير التي يحملها الشهران شعبان ورمضان، ليكون المرء من الفائزين بإذن الله تعالى.
للذنوب أثر سيئ على القلب وكلما سارع العبد في التوبة سلم قلبه وإذا لم يتب تركت أثراً
1- التوبة والاستغفار وصحبة القرآن:
إن الذنوب لها أثر سيئ على القلب، وكلما سارع العبد في التوبة منها سلم قلبه، وإذا لم يتب تركت أثراً يبقى فيه، ومع تكرار الذنوب يتكون الران على القلب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا هو نزع واستغفر وتاب سقل قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، وهو الران الذي ذكر الله: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (المطففين: 14)» (رواه أبو داود والترمذي)؛ وهذا الران هو ما يحجب القلب عن شعوره بالخشوع ولذة العبادة، ويمنع استقباله أنوار الوحي، وذلك ما يلاحظه كثير من المسلمين في بداية رمضان من عدم تأثر قلوبهم بالطاعات، ثم زوال هذا الأمر تدريجياً بالتقدم في الشهر مع كثرة الطاعات وطول تعرض القلب لكلام الله.
وعليه؛ فبدلاً من تضييع أيام رمضان لإزالة هذا الران، فليبدأ المرء في إزالته قبله، وقد بيَّن الشرع أهمية الاستغفار في شعبان حينما جعل رفع الأعمال في ليلة النصف من شعبان؛ وذلك ليحث النفوس ويوقظها لكي تستعد مبكراً للسباق الإيماني في رمضان.
من إعداد النفس التدرب على تدبر القرآن بتلاوته حق التلاوة وفهمه والعمل بما جاء به
2- إعداد النفس والأخذ بالعزيمة والهمة:
إن النفس تحتاج إلى العزيمة والهمة في الأمور التي لا تألفها حتى تصبح لها عادة، ويجب إعداد النفس بكل ما يُعينها على أداء الطاعات، وقد ذم القرآن المهملين لذلك، وجعله دليلاً على عدم صدق نواياهم، فقال الله تعالى: (وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَـكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ) (التوبة: 46).
ومن إعداد النفس التدرب على تدبر القرآن؛ وذلك لتحقيق المقصد من نزوله، وهو تلاوته حق التلاوة بفهمه والعمل به، ومعرفة أسماء الله الحسنى وصفاته العلا؛ لتستحضر النفس عظمة الله تعالى وجلاله فتحبه وتخشاه، ومعرفة فضل رمضان وما فيه من مضاعفة الثواب والعتق من النيران؛ فذلك يدفع النفس للعمل دفعاً عظيماً، ومعرفة أحكام الصيام؛ ليقيم العبد الصيام بحقه، وتتبع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ثم الصالحين؛ للاقتداء بهم، وكل يستعد بما يقدر عليه؛ (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) (المطففين: 26).
3- التنظيم والتخطيط:
يضع الكثيرون خططاً ومنظمات للوقت وتتبعات للعادات؛ ولكن القليل منهم من يضعون مخططات لاستغلال الأوقات في الطاعات أمثل استغلال، وذلك حتى لا يطغى جانب له حقوق على غيره، وقد جاء في وصية سلمان الفارسي لأبي الدرداء: إنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فأعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فأتَى النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَذَكَرَ ذلكَ له، فَقَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «صَدَقَ سَلْمَانُ» (رواه البخاري)، فإن العبد محتاج إلى تنظيم وقته ليعطي كل ذي حق حقه.
على العبد أن يجعل هدفه من النوافل تحصيل محبة الله تعالى له وأن يتدرج فيها ويزيد منها
وجميل أن يضع المرء قائمة بالصفات المذمومة التي يود التخلص منها في سائر هذه الجوانب، وتحديد مدة زمنية للعمل عليها حتى تفاديها، وزرع الصفات الجيدة الجديدة مكانها، ثم يعمل على تثبيتها، ولا يمل إن سقط مرة أو مرات، فإنه «لَا يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا» (رواه البخاري ومسلم)، ويكفي دافعاً لذلك أن يُري العبد ربه من نفسه خيراً وهو يجاهدها، فإن ذلك من أسباب الهداية؛ (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت: 69).
4- التدرج في التزام النوافل:
رغب الله سبحانه وتعالى عباده في النوافل، فجاء في الحديث القدسي: «إن الله قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه» (رواه البخاري).
فعلى العبد أن يجعل هدفه من النوافل تحصيل محبة الله تعالى له، وأن يتدرج فيها فيصلي ركعتين مثلاً ثم يُزيدهما لأربع بعد أسبوع وهكذا؛ حتى لا يصل إلى رمضان إلا وهو نشيط البدن خفيف النفس؛ فيقوى بذلك على القيام والصيام والذكر وسائر العبادات.
5- الدعاء:
ليس هناك أفضل من لجوء العبد لربه ودعائه له، ولذا اختُصر فيه الدين كله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدُّعاءُ هو العبادةُ»، ثمَّ قرأ: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (غافر: 60) (رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه).
شعبان ورمضان فرصة حقيقية لمن أراد تغيير نفسه وتصحيح علاقته مع خالقه أن يغتنمها
واستغلال الأوقات الفاضلة في ذلك غنيمة كبيرة؛ لذا أكثر الصالحون من الدعاء قبل رمضان ببلوغه والتوفيق في العبادة فيه ولزوم الاستغفار لذلك.
وختاماً؛ شعبان ورمضان فرصة حقيقية لمن أراد تغيير نفسه وتصحيح علاقته مع خالقه، فتلك الأوقات الفاضلة لا بد أن يغتنمها العبد ولا يجعلها تمر في غفلة منه، وأن يقتدي فيها بسيد الخلق أجمعين، فكما جاء في حديث عائشة قالت: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر صياماً منه في شعبان» (رواه البخاري، ومسلم).
وكما خص الرسول صلى الله عليه وسلم شعبان بمزيد من صيام التطوع عن غيره من الشهور؛ فلا بد كذلك من زيادة الطاعات فيه ليدخل العبد السباق الرمضاني على أتم الاستعداد ليكون من الفائزين برحمة الله وتوفيقه.