مرت العلاقة بين مسلمي الصين وإخوانهم في العالم الإسلامي بظروف متباينة، ارتفعت تارة وانخفضت أخرى، حسب الظروف السياسية والاجتماعية للصين ولبلدان الخلافة الإسلامية، وكانت الرسل والوفود تترا من وإلى الصين خلال عصور الدولة الأموية والعباسية والدول المستقلة، التي وافقت عصور الأسرات الصينية تانغ (618 – 907م)، وسونغ (907 – 1271م)، ويوان (1271 – 1368م)، ومينغ (1368 – 1644م).
فلما جاء عصر أسرة تشينغ (1644 – 1911م) خضعت الصين لاحتلال المانشو الشماليين، فتغيرت أوضاع المسلمين في الصين كثيراً، وانقطعت الصلات الرسمية بينهم وبين والعالم الإسلامي، واقتصر الأمر على الزيارات الفردية التي كان يقوم بها علماء مسلمون صينيون لبلدان العالم الإسلامي وخاصة مكة والمدينة ومصر والقسطنطينية دار الخلافة آنذاك.
ويؤكد المؤرخون أن بداية التقارب والانفتاح العثماني نحو المسلمين في الصين كانت في عهد السلطان عبدالعزيز عام 1873م، الذي دعم تركستان الشرقية المسلمة في حربها مع الحكومة الصينية المركزية غير عابئ بما سيكلفه ذلك من ثمن سياسي باهظ، والإمبراطورية تعيش حالة الرجل المريض كما وصفها الغرب.
لكن الخطوة الإستراتيجية التي ساهمت في توحيد الأقلية المسلمة في الصين، جاءت من قبل السلطان عبدالحميد الثاني الذي أعلن أكثر من مرة التزامه بمشروع الاتحاد الإسلامي الذي مكَّنه من دخول أكثر من منطقة في العالم، وكانت بكين هدفه هذه المرة رغم بُعد المسافات والسياسات.
بداية التقارب العثماني نحو المسلمين في الصين كانت بعهد السلطان عبدالعزيز عام 1873م
ففي عام 1890م، أرسل السلطان بعثة بقيادة الأدميرال عثمان باشا إلى الصين، عبر ساحل اليابان، ووصلت في 18 سبتمبر 1890م، ثم في عام 1901م وبمساعدة ألمانيا تم إرسال بعثة أخرى، تحت قيادة أنور باشا، مصطحباً معه اثنين من العلماء، وقد وصلت هذه البعثة شانغهاي، وأقامت هناك في القنصلية الألمانية، وبعد فشل هذه البعثة بسبب ظروف التمويل، عادت إلى أوروبا عن طريق اليابان، ولكن بقي العالمان الاثنان في الصين، حيث قاما بزيارة التجمعات الإسلامية المنتشرة في الصين.
زيارة الشيخ وانغ كوان للسلطان عبدالحميد الثاني
وفي عام 1905م، سافر الشيخ وانغ كوان مع تلميذه ماشان تينغ إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج، ثم اتجها بعد ذلك إلى القسطنطينية، لمقابلة السلطان عبدالحميد الثاني، ولما قابلهما الخليفة قدَّما إليه اقتراحين؛ أولهما: إرسال أساتذة إلى الصين للتدريس للمسلمين الصينيين لإعداد جيل من العلماء، والآخر: تزويد المدرسة المزمع إنشاؤها بالكتب والمطبوعات الإسلامية تيسيراً للدراسة والدارسين.
وقد استجاب السلطان لطلب الشيخ كوان، وأكرم وفادته ومنحه وسام الخلافة، وعاد الشيخ كوان إلى الصين عام 1906م سالماً غانماً، وعندما التقى المسلمين هناك، قال متأثراً: «بعد أن قمت بزيارة تركيا، عرفت أنه لا سبيل لبقاء الإسلام إلا بالاهتمام بالتعليم».
ومن هنا صمم على تأسيس المدارس الإسلامية، فتعاون مع عدد من المسلمين في تأسيس المدرسة الابتدائية في حرم مسجد نيوجيه، واستقدم بعض الأساتذة الصينيين للتدريس فيها.
البعثة التركية للصين
وفي سبتمبر 1907م، أرسل السلطان العثماني بعثة إلى بكين، تألفت من اثنين من الأساتذة، هما علي رضا، وكان أستاذاً ومفتشاً، وقام بتدريس الحضارة العربية، والآخر حسن حافظ، وعمل مساعداً لزميله السابق.
وقد أسس المبعوثان التركيان مدرسة في نيوجيه، وأقبل المسلمون عليهما، وقد بث هذان الداعيان روح الانضمام إلى الخلافة، ورفعا العلم العثماني، وزارا مناطق تجمعات المسلمين، ونشرا في الصين الجرائد الإسلامية؛ عثمانية أو تركية، ومصرية، وروسية، وبلغارية.
السلطان عبدالحميد أعلن التزامه بمشروع الاتحاد الإسلامي ودخول مناطق العالم ومنها الصين
وكان رضا يقوم بتنظيم المدارس الابتدائية للمسلمين الصينيين، كما كان مداوماً على إرسال الرسائل حول نشاط المدرسة إلى دار الخلافة.
وبعد افتتاح المدرسة في بكين؛ خرجت الصحافة في إسطنبول بخبر مفاده أن عدداً من مسلمي الصين متحمسون، يحبون العلم ويرغبون الاستفادة من المعارف الإسلامية، وأن لديهم مؤسسات تعليمية ومدارس، وأن في بكين وحدها 38 مسجداً وجامعاً، يؤدي المسلمون فيها الصلاة، ويدعون فيها لخليفة المسلمين السلطان عبدالحميد الثاني، وأن خطبة الجمعة في مساجد وجوامع بكين تُقرأ باللغة العربية، ثم تترجم إلى اللغة الصينية، وأن الدعاء للسلطان عبدالحميد بصفته خليفة المسلمين لا يقتصر على بكين فقط، بل يمتد إلى كل مساجد الصين وجوامعها.
وقد تأسست المدرسة في بكين (عاصمة الصين) وأطلق عليها المسلمون الصينيون اسم «المدرسة الحميدية»؛ نسبة إلى الخليفة عبدالحميد الثاني، أو بتعبير السفير الفرنسي في إسطنبول اسم «دار العلوم الحميدية في بكين»، وذلك في تقرير له إلى وزارة خارجيته في باريس.
وقد حضر افتتاح هذه الجامعة آلاف المسلمين الصينيين، وحضره أيضاً مفتي المسلمين في بكين، والكثير من علماء المسلمين هناك.
وفي مراسم الافتتاح، ألقيت الخطبة باللغة العربية، ودعا الخطيب للسلطان الخليفة عبدالحميد، وقام مفتي بكين بترجمة الخطبة والدعاء إلى اللغة الصينية؛ وبكى أغلب المسلمين الحاضرين بكاء حاراً بدافع فرحتهم، وأن مسلمي الصين مترابطون فيما بينهم ترابطاً واضحاً برباط الدين المتين، وأن إلقاء الخطبة باللغة العربية؛ لغة المسلمين الدينية، ورفع علم الدولة العثمانية على باب هذه المدرسة، قد أثرا تأثيراً بالغاً في هؤلاء الناس طيبي القلوب، وحرك الدموع في أعينهم.
أسس مبعوثان تركيان «المدرسة الحميدية» في بكين نسبة إلى الخليفة عبدالحميد الثاني
وبجهود الشيخ وانغ كوان والبعثة العثمانية تأسست أول مدرسة نظامية إسلامية للمعلمين في حرم مسجد نيوجيه، بالإضافة إلى ذلك أسست 4 مدارس أخرى مماثلة في 4 مناطق في بكين؛ ليكون متاحاً لأبناء المسلمين القريبة مساكنهم منها الالتحاق بها.
وقد عادت البعثة التركية بعد بشهور إلى إسطنبول؛ نتيجة لبعض الأحداث السياسية، لكنها تركت تأثيراً كبيراً خلال الفترة التي قضتها بالصين في أوساط المسلمين الصينيين، ولو قُدر لها البقاء لكان لها شأن آخر، وكذلك لو قدر للسلطان البقاء على رأس الخلافة لكان هناك بلا شك بعثات وبعثات، خاصة أن السنوات التي تلت شهدت انتشار المدارس الإسلامية وسط تجمعات المسلمين في مناطق الصين المختلفة، ولو وجد القائمون على هذه المدارس شخصاً كالسلطان عبدالحميد في سدة الحكم لتضاعف عددها وازداد انتشارها وامتد تأثيرها.
______________________
1- السعيد رزق حجاج: المسلمون في الصين في العصر الحديث، مطابع حسان، القاهرة، 1408هـ/ 1985م، ص80.
2- أكمل الدين إحسان أوغلي: الدولة العثمانية تاريخ وحضارة، نقله إلى العربية صالح سعداوي، إستانبول، 1999م، نشر مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية، إستانبول.
3- بدر الدين حي الصيني: تاريخ المسلمين في الصين في الماضي والحاضر، دار الإنشاء والطباعة، طرابلس، 1394هـ، ص92.
4- توختي أخون أركين: تركستان الشرقية، البلد الإسلامي المنسي، 1417هـ/ 1997م، ص11.
5- محمود يوسف لي خواين: الشخصيات الإسلامية البارزة في الصين، دار الهلال الأزرق للنشر، هونج كونج، 2003م، ص120.
6- Marshal Brom Hall: Islam in China Neglected Problem, London, Morgan and Scoots, 1910, p. 15.