لا يترك الاحتلال الصهيوني وسيلة لتحقيق أطماعه وإنفاذ مخططاته، في القتل والتدمير والتهجير والاستيطان، إلا سلكها؛ كانت وسيلة مشروعة أم غير مشروعة (وهو لا يملك أصلاً أي وسيلة مشروعة؛ إذ الاحتلال برمته عمل غير مشروع)، ونَجَمَ عنها إزهاق للأرواح أم لم ينجم، ومن هذه الوسائل غير المشروعة وغير الإنسانية الحصار.
والحصار كأداة من أدوات الاحتلال الصهيوني، دائمًا يستخدمها؛ لفرض سيطرته، وبسط هيمنته، ولينال بها ما يفوتهم في ميدان المواجهة؛ أي هو يعمل على أن يكسب بالحصار، ما يعجز عن تحقيقه بالسلاح، وأن يفرض به ما يفشل في انتزاعه حتى بالمفاوضات!
والاحتلال الصهيوني فيما يمارسه من حصار، لا يهمه ما ينتج عنه من تجويع ومعاناة، ومن حرمان الإنسان من أبسط حقوقه؛ في حرية الحركة والتنقل والعلاج فضلاً عن العمل والكسب.. بحيث يحول المدنَ الواقعة تحت الاحتلال إلى سجن داخل السجن! فالاحتلال ذاته سجن كبير، ثم هو يمارس الحصار حتى داخل هذا السجن، مرة أخرى.. ظلمات بعضها فوق بعض!
مرتكزات الحصار
ومن المهم أن نلتفت إلى ما يقوم عليه الحصار من معانٍ ومرتكزات؛ حتى ندرك طبيعة هذا الاحتلال الصهيوني الغاشم، المعادي للإنسان والحجر والشجر!
1- الحصار يقوم على الاستهانة بالإنسان: فبعد استباحة الأرض تأتي استباحة الإنسان؛ حيث لا اعتراف بحقوق ولا بآدمية ولا بكرامة، كل شيء مباح عند الاحتلال لفرض سيطرته، وتحقيق أطماعه؛ والإنسان هو آخر ما يمكن أن يفكر فيه، وفي هذه النقطة تحديدًا يمثل الاحتلال الصهيوني امتدادًا و«ابنًا شرعيًّا» للاستعمار الغربي؛ الذي أقام نهضته على ثروات الشعوب واستعبادهم، حتى راكم عنده الثروات الطبيعية وحرم منها أبناءها!
2- الحصار يقوم على اللاأخلاقية في تحقيق الأهداف: فلما كان الاحتلال عملاً غير مشروع من الأساس؛ فإنه بالضرورة لا يتورع عن أي وسيلة، ولا يضع في اعتباره موجبات الأخلاق ولا شروطها، عند التعامل مع من يمارس عليه البطش والقهر، ومن اللافت في العدوان الصهيوني على غزة، الذي ما زالت تجري فصول وحشيته وهمجيته، ما يزعمه العدو تكرارًا من أنه من أكثر الجيوش أخلاقيةً في العالم! ولنا أن نتساءل: أكل هذا الدمار والتدمير، وهو جيش أخلاقي؟! فكيف لو كان غير أخلاقي؟! يا بؤس الكلمات حين تجري معانيها على لسان فاقديها!
3- الحصار عند الاحتلال الصهيوني يقوم على سند ديني: فمفاهيمهم الدينية تبرر لهم ذلك، ولا توجب عليهم أي حقوق لـ«لأغيار»، ولا أي ضوابط في الحرب! وفي «سفر التثنية»: «حِينَ تَقْرُبُ مِنْ مَدِينَةٍ لِكَيْ تُحَارِبَهَا اسْتَدْعِهَا إِلَى الصُّلْحِ. فَإِنْ أَجَابَتْكَ إِلَى الصُّلْحِ وَفَتَحَتْ لَكَ؛ فَكُلُّ الشَّعْبِ الْمَوْجُودِ فِيهَا يَكُونُ لَكَ لِلتَّسْخِيرِ وَيُسْتَعْبَدُ لَكَ. وَإِنْ لَمْ تُسَالِمْكَ، بَلْ عَمِلَتْ مَعَكَ حَرْبًا؛ فَحَاصِرْهَا. وَإِذَا دَفَعَهَا الرَّبُّ إِلهُكَ إِلَى يَدِكَ؛ فَاضْرِبْ جَمِيعَ ذُكُورِهَا بِحَدِّ السَّيْفِ. وَأَمَّا النِّسَاءُ وَالأَطْفَالُ وَالْبَهَائِمُ وَكُلُّ مَا فِي الْمَدِينَةِ، كُلُّ غَنِيمَتِهَا؛ فَتَغْتَنِمُهَا لِنَفْسِكَ، وَتَأْكُلُ غَنِيمَةَ أَعْدَائِكَ الَّتِي أَعْطَاكَ الرَّبُّ إِلهُكَ. هكَذَا تَفْعَلُ بِجَمِيعِ الْمُدُنِ الْبَعِيدَةِ مِنْكَ جِدًّا الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ مُدُنِ هؤُلاَءِ الأُمَمِ هُنَا. وَأَمَّا مُدُنُ هؤُلاَءِ الشُّعُوبِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَصِيبًا؛ فَلاَ تَسْتَبْقِ مِنْهَا نَسَمَةً مَّا» (التثنية، إصحاح 20: 10- 16).
من أهداف الحصار
وقد استخدم الاحتلال الصهيوني الحصار كأداة من أدواته الإجرامية، باستمرار؛ لأنه احتلال استيطاني ينطلق من أن «فلسطين أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض»؛ وبالتالي فهو يعمل على تفريغ الأرض من أهلها؛ إما بالقتل والمذابح، التي بدأت حتى من قبل إعلان قيام الكيان الغاصب في عام 1948م، وإما بالتهجير، كما بيّنا في الحلقة الأولى من هذه السلسلة، وإما بالحصار.
ويهدف الاحتلال الصهيوني من خلال الحصار إلى تحقيق عدة مكاسب؛ منها:
1- تقليل عدد السكان: من خلاله دفعهم للهجرة الطوعية بعدما يفقدون كل مقومات الحياة، ويجدون صعوبة بالغة في توفير الحد الأدنى من حياة كريمة، أو من خلال ممارسة سياسة القتل البطيء على المحاصرين، بمنع الغذاء والدواء عنهم، وتركهم فريسة للأمراض وسوء التغذية.
2- فرض السيطرة: فحتى يستطيع الاحتلال أن يتحكم في الشعب الذي يقاومه ويأبى القبول به؛ يلجأ هذا الاحتلال إلى الحصار، بشكل كلي أو جزئي، حتى يفرض سيطرته وإرادته.
3- المساومة على الحقوق: يستخدم الاحتلال أسلوب الحصار لمساومة أصحاب الأرض على حقوقهم؛ سواء حقوقهم الإنسانية في الغذاء والدواء، أو حقوقهم السياسية في الاعتراف بحقهم في مقاومة الاحتلال وتحرير المقدسات وعودة اللاجئين.
وقد رأينا أن الاحتلال فرض الحصار حتى على الذين قبلوا الدخول معه في عملية تفاوضية ومنحوه الاعتراف الذي طالما بحث عنه؛ كما في الحصار الشهير للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، داخل مقره في رام الله لأكثر من 3 سنوات، بعد الانتفاضة الثانية، التي اندلعت في 28 سبتمبر 2000م، ولم يرفع عنه الحصار إلا بعد أن أسلم الروح لبارئها!
4- انتزاع المكاسب: فما عجز الاحتلال أن يحققه في ميدان المواجهة بالسلاح، بالرغم من الفارق الهائل بين تسليحه وتسليح المقاومة، يريد أن يحققه بأسلوب الحصار، وهذا أمر بارز الآن في العدوان على غزة؛ لكي يضغط على المقاومة، من خلال إلحاق الأذى بحاضنتها الشعبية، فمن لم يمت بالقصف مات بالجوع أو بالمرض!
5- العقاب الجماعي: فمنذ فوز «حماس» بالانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006م، والاحتلال يمارس الحصار على غزة؛ كعقاب جماعي للشعب على انحيازه للمقاومة!
صمود بطولي
وفي مواجهة أهداف الاحتلال من وراء الحصار، كأداة إجرامية من أدواته التي تهدر حق الإنسان وكرامته، يأتي الصمود البطولي للشعب الفلسطيني في الرد على هذا الحصار؛ الذي يُستخدم كما أشرنا كعقاب جماعي للشعب على الانحياز للمقاومة، ويُستخدم أيضًا كوسيلة ضغط لتأليب الحاضنة الشعبية على المقاومة؛ بحيث تكون المقاومة تحت مطرقة الاحتلال وسندان التذمر الشعبي!
لكن، وبحمد الله تعالى، فات هذا الاحتلالَ الغاشم أن يدرك أن الشعب الفلسطيني شعب صابر صامد، لا يبخل على قضيته العادلة بشربة ماء أو كسرة خبز أو جرعة دواء، بينما هو مستعد لأن يضحي بروحه في سبيلها، وقدَّم آلاف الشهداء في مسيرة الصمود والبطولة.
وهذا الصمود البطولي ينبع مما منحه الله تعالى من صبر وثبات لهذا الشعب الأبيّ، الذي يدرك أن الشهادة في سبيل تحرير الأرض والمقدسات منزلة عالية عند الله تعالى، وأن ما يصيب المسلمَ دون الشهادة -من حصار وتضييق- هو أيضًا في ميزان حسناته، قال الله تعالى: (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (التوبة: 120).
فالأجر الجزيل من الله تعالى لمن يدافع عن أرضه، ليس مقصورًا على من يضحي بروحه؛ وإنما يشمل كلَّ أنواع التضحيات، وجميعَ مظاهر البذل والصمود؛ ومنها الصبر على الحصار الظالم؛ الذي يفرضه الاحتلال لعقاب الشعب المنحاز لقضيته ولمقاومته، ولإجبار المقاومة على التسليم بعد أن عجز عن كسرها في الميدان.. لكن هيهات!