تلك آفة المجتمعات، والسوس الذي ينخر فيها فيفسد العلاقات الاجتماعية ويوقع بين الناس وينشر الضغينة بينهم ويفسد على المرء حياته، فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذرك قائلاً: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» (رواه الترمذي)، تكون عائداً من طريق فإذا به يلاقيك ويسألك: أين كنت؟ وماذا كنت تفعل؟ وماذا اشتريت؟ وبكم؟ ولماذا؟ ولمن؟
تكون راضية بحالها فتسألها جارتها: كيف تعيشين مع هذا الرجل ذي الصوت المرتفع دوماً؟! كيف تتحملينه؟! فتغضب من زوجها وتبغض حياتها معه، ويكون راضياً بزوجته فتسأله أخته أو قريبته: لماذا هذه السمراء والفتيات مثلها كثيرات؟! فينظر بعينه هنا وهناك ويزهد أهله وحياته.
فلان كم يتقاضى؟ وفلانة لماذا طلقها زوجها؟ وتلك أين تذهب كل يوم؟ وهذا لماذا يغلق بابه دوماً ولا يستقبل ضيوفاً أو أهلاً؟ وتلك لماذا تخفي وجهها بالنقاب؟
لماذا تزوجت هذه المرأة وقد كانت متزوجة من قبل؟ ألم يكفها من الزواج مرة؟ لماذا تزوج هذا الرجل من هذه المرأة خصيصاً؟ تلك علاقة غير بريئة!
هذه الصور وغيرها تتكرر على أسماعنا كل يوم من تدخل الناس في شؤون بعضهم بعضاً دون أن يعلموا أنه أذى أشد من الأذى الجسدي، وللتدخل في شؤون الآخرين أسباب تدفع صاحبها لمعرفة أخبار الغير والبحث عنها، منها:
أولاً: الفضول: الفضولي تكون نفسه دوماً متأهبة، وعينه مترقبة، يبحث هنا وهناك عن عابر سبيل، أو يبحث عن خطأ ما، أو حكاية يبدأها لينهيها بطريقته التي ترضيه متحرياً الكذب فيصير التوقع لديه حقيقة يسوقها للناس ليسترعي انتباههم ويخطف اهتماماتهم.
ثانياً: الفراغ: الفراغ نعمة من النعم المغبون فيها الإنسان، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس؛ الصحة، والفراغ» (رواه البخاري).
ثالثاً: تبرئة الذات من النقص وإلصاقه بالآخرين: البعض ممن أصابه الشعور بالنقص في ذاته يحاول أن يلصق هذا النقص بالآخرين لينزه نفسه أو يسمو بها على غير ما تستحق، فيتهم هذا بتهمة هو منها بريء، ويسب ذاك، ويشوّه صورة هؤلاء وكأنه يريد أن يقول: أنا لست مثلهم.
تبعات التدخل في شؤون الآخرين:
1- التلصص والتجسس وتتبع عورات الناس:
من أخطر تبعات تدخل الإنسان فيما لا يخصه أنه كثيراً ما يضطر لإرضاء فضوله بالإقدام على جريمة أخلاقية، وهي جريمة التحسس والتلصص على الخلق لمعرفة أخبارهم، أو ما وراء تلك الأخبار، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من اطلع في بيت قوم بغير إذن ففقئوا عينه فلا دية له» (رواه البخاري ومسلم)، ومن صور التجسس أن يتتبع الشخص على مواقع التواصل الاجتماعي ويلاحقه، وقد يمتد الأمر للابتزاز وما يترتب عليه من مخاوف اجتماعية تدخل في باب ترويع المسلم المحرم شرعاً، وما يتتبع ذلك من تشهير.
وفي بحث للدكتور محمد عبدالدائم الجندي، بعنوان «تتبع العورات بين الخطر المجتمعي والحكم الشرعي»، يقول في إحدى فقراته(1): حرم الإسلام التجسس المؤدي إلى تتبع عورات الناس، ولا تسمح الشريعة بحال من الأحوال بالتجسس المؤدي إلى تتبع العورات، بل نهت عنه، فتجسس المسلم على أخيه المسلم حرام بالإجماع، وذلك لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً) (الحجرات: 12).
2- الغيبة والكذب:
والتدخل فيما لا يعني الإنسان يجبره على الغيبة والكذب في كثير من الأحيان، فهو يبحث عن المعلومة، ويلح في السؤال ليس لمجرد المعرفة، وإنما لما يترتب عليها من نقل لها وتحليل وإضافة وحذف كي يشبع هواه، والغريب في الأمر أن تلك الآفة شر كلها، حيث إن الغيبة إذا كانت صادقة فهو آثم بارتكابها، وإن كانت كاذبة فهي بهتان عظيم، فهو خاسر في كل الحالات، وقد وردت أحاديث كثيرة في تحريم الغيبة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أتدرون ما الغيبة؟»، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «ذكرك أخاك بما يكره»، قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته» (رواه مسلم).
وأما عن آفة الكذب، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، وما يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً» (رواه البخاري ومسلم)، وعن أبي ذر الغفاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم»، قال: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، قال أبو ذر: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله، قال: «المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب» (رواه البخاري).
3– تضييع الوقت والعمر في حصد الذنوب:
والانشغال بأحوال الناس وتتبع أخبارهم والتدخل في أمورهم يستهلك وقت المسلم ويشغله عن نفسه وعن كل ما يفيدها، ولقد ساهمت مواقع التواصل الاجتماعي في نشر ثقافة القيل والقيل وتدخل الناس فيما لا يعنيهم، فتنتقل الرسالة الواحدة للعشرات والمئات بضغطة زر واحدة دون مراعاة خصوصيات الناس أو تحري الحرام والحلال، تنتقل لهم فينقلونها بدورهم، ومن الصعب أن تتوقف عند أحدهم فتشغل الجميع بما لا طائل من خلفه وتلتهم أوقاتهم وأعمارهم.
والوقت عند المسلم هو العمر الذي ينقضي دقيقة بدقيقة، فيجب ملؤه بالعمل الصالح قبل أن يمر كله دون جدوى، أو يفاجأ بملئه بالمهلكات، وقد أقسم الله عز وجل به لينتبه المسلم لأهميته فيقول تعالى: (وَالْعَصْرِ {1} إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ {2} إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) (العصر)، وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك»(2)، وعن عدي بن حاتم قال: قال صلى الله عليه وسلّم: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه ما فعل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه»(3).
4- ملاقاة ما لا يرضيك:
وليس كل إنسان يمكن أن يسكت عن حقه في تدخلك في شأنه بغير إذن منه ولغير حاجة، وأقل ما يرد عليك به: وما شأنك أنت؟ ولماذا تسأل والأمر لا يخصك؟ هذا فضلاً عن ردود أخرى قد تمتد لأكبر من مجرد اللفظ، خاصة أن التدخل في خصوصيات الناس غالباً ما يكون لتصيد الأخطاء وانتقادهم والسخرية منهم والتقليل من شأنهم، وقليل من الناس من يسمح بذلك أو يستسلم له وهو من سوء الخلق ودناءة النفس وغياب الرقابة الإيمانية الذاتية، والأصل في التعامل مع عيوب الآخرين الستر وليس التقصي والتحقق ومن ثم الفضح، فقد دَخَلَ رجلٌ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَهُوَ يَخْصِفُ نَعْلَيْهِ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ، لَوْ أَلْقَيْت هَذَا النَّعْلَ، وَأَخَذْت آخَرَ جَدِيدًا! فَقَالَ لَهُ: «نَعْلِي جَاءَتْ بِك هَاهُنَا؟ أَقْبِلْ عَلَى حَاجَتِك»؛ أي كأنه يؤدبه بقول النبي صلى الله عليه وسلم «مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ»، لأنك لا تدري عن ظروفه المادية، هل يستطيع شراء نعل جديد أم لا، فَلِمَ تحرجه؟ والله عز وجل يقول: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الإسراء: 36).
5- غضب الله:
ومن يقع في رذيلة الخوض في حياة الآخرين، فقد وقع في كثير من الموبقات كما مر بنا، فغير الغيبة والكذب وحب نشر الفاحشة والتجسس على الناس، هناك الحقد والكراهية التي ينشرهما في المجتمع نتيجة نشره ما لا يجب اطلاع الناس عليه، فيوقع بين الخلق ويبغض أحدهم للآخر ويهدد قيمة الحرية الشخصية وينشر سوء الظن ويجعله أساساً للتعامل فيقع في غضب الله وسخطه في الوقت الذي يجب عليه فيه إنقاذ نفسه وإشغالها بالحق، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلامَهُ، فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا، تُكْتَبُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا، تُكْتَبُ بِمِثْلِهَا حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ» (متفق عليه).
ولقد جاء في سير أعلام النبلاء في ترجمة الصحابي الجليل أبو دجانة، أنه دخل عليه بعض أصحابه وهو مريض ووجهه يتهلل، فقيل له: ما لوجهك يتهلل؟ فقال: مَا مِنْ عَمَلٍ أَوْثَقُ عِنْدِي مِنْ خَصْلَتَيْنِ: كُنْتُ لَا أَتَكَلَّمُ فِيمَا لَا يَعْنِينِي، وَكَانَ قَلْبِي سَلِيمًا لِلْمُسْلِمِينَ»(4).
وليس معنى هذا أن يترك المسلم شؤون المسلمين العامة، فالاهتمام بالشأن العام واجب كل مسلم، ونبي الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» (رواه البخاري ومسلم)، والفارق كبير بين الأمرين؛ فهنا محرم، وهناك واجب على كل مسلم.
___________________________
(1) نشر في مجلة العلوم الشرعية الصادرة من جامعة القصيم، المجلد التاسع العدد الأول.
(2) رواه السيوطي في الجامع الصغير، وقال الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، (1077)، ص 243.
(3) أخرجه الترمذي في سننه (4/ 215)، كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع، باب: في القيامة (2415) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(4) سير أعلام النبلاء ج1، ص244.